للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثامن: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم]

.... القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وجدوا أن هذه النصوص (النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه) تتعارض مع نتاج فكرهم وما توصلوا إليه بآرائهم فلم يجدوا بداً من تأويلها وصرفها عن ظاهرها الصريح إلى صنوف من التأويلات، وألوان عجيبة من التحريفات، حتى إن قارئ كتبهم والمطلع عليها ليلمس فيهم عند إيرادهم لنصوص الشرع أنهم إنما أوردوها ليشرعوا في ردها وتأويلها شروع من قصد ذلك أصلاً وابتداء وكيفما اتفق له ذلك الرد أو التأويل.

ولا ريب في فساد هذا المنهج وبطلانه وانحرافه وبعده عن الجادة السوية المرضية، بل إن معظم الفساد العقدي والإنحراف الديني الذي منيت به أكثر الفرق الإسلامية إنما كان بسبب ذلك وثمرة من ثمراته.

وما من شك أن هذا الباب لو فتح - أعني باب التأويل - لولج كل مبطل بباطله، وادعى أن نصوص الوحي تدل عليه، ثم تأول النصوص لتتفق مع هواه وباطله، وليس هذا مجرد تصور، بل إن هذا هو ما حصل فعلاً من عامة أهل العلم.

قال شيخ الإسلام: "وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق، بل أصلوا أصولاً تناقض الحق. فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلوا على الحق حتى أصلوا أصولاً تناقض الحق، ورأوا أنها تناقض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموها على ما جاء به الرسول. ثم تارة يقولون: الرسول جاء بالتخييل، وتارة يقولون: جاء بالتأويل، وتارة يقولون: جاء بالتجهيل" (١).

فهم لا يقبلون من نصوص الوحي ما خالف آرائهم وأصولهم وقواعدهم، بل ينصرفون إلى رده بأي وجه.

خلافاً لمنهج أهل الحق والسلامة والسنة والجماعة رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين فإنهم كلهم متفقون على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة على كل حال، فكلمتهم واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن موضوعها تبديلاً، ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدعفوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوا القرآن عضين.

فالواجب لزوم منهج أهل السنة والجماعة، والبعد عن هذه المناهج المنحرفة، وأن يكون الرد في موضع النزاع والخلاف إلى الكتاب والسنة، وأن لا يقدم بين يدي الله ورسوله شيئاً من تلك التأويلات الفاسدة والآراء الباطلة، التي هي في الحقيقة زبالات الأذهان ونخالات الأفكار وعصارات الآراء ووساوس الصدور. ومما يبين لنا فساد هذا المنهج أن نعلم أن كل فساد وخراب حل بالعالم إنما نشأ بسبب ذلك، بسبب تقديم الرأي على الوحي، والهوى على النقل، وما استحكم هذا الأمر في قلب أحد إلا استحكم هلاكه، ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد (٢).

كل ذلك وغيره يقتضي فساد التأويل الذي هو مطية أهل البدع، والذي هو خلاله يتوصلون إلى تحقيق أهوائهم موهمين الأغمار والبسطاء أنهم يحتكمون إلى الكتاب والسنة، وما أبعدهم عنهما، وفيهم أناس مغرر بهم، غرهم بهرجة التأويل وحسن تزويقه، وهم قريبون إن وقفوا على الحق وصلحت النية، وفيهم آخرون دخلوا فيه عن حسن قصد وصلاح نية ولكن ليس كل من أراد الخير أصابه، والموفق من وفقه الله.


(١) ((الفتاوى)) (١٦/ ٤٤٠)، وانظر أيضاً ((الفتاوى)) (١٣/ ١٤٢) و (١٧/ ٣٦١).
(٢) انظر ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (١/ ٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>