للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد، فإني ذاكر ما وقفت عليه من تأويلات للقائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص للنصوص المخالفة لقولهم، وهي عندهم تعد أجوبة على ما احتج به أهل السنة والجماعة على قولهم إن الإيمان يزيد وينقص، ثم اتبع ذكر ذلك بما يبين فساد تلك التأويلات، وإن كان فسادها معلوماً من خلال ما ذكر آنفاً في بيان فساد التأويل إجمالاً.١ - فمن أجوبتهم عن الآيات الدالة على زيادة الإيمان إدعاؤهم أنها محمولة على أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثم كانت تأتيهم الفروض فرض بعد فرضاً، فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص إلى أن تكاملت الفروض وكمل الدين، فكان الإيمان يزيد بزيادة المؤمن به. ثم لما كمل الشرع فلا مجال بعد ذلك لزيادة الإيمان إذ إن هذا لا يتصور في غير عصره صلى الله عليه وسلم (١).

والجواب عن هذا أن يقال:

لا ريب في أن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده وأمرهم به كان يزيد شيئا فشيئاً كما أن القرآن الكريم كان يزيد شيئاً فشيئاً إلى أن أتم الله الدين وأكمله وأنزل في بيان ذلك قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: ٣].

والإكمال الذي نص عليه في الآية عائد إلى الإيمان الذي هو أمر الرب سبحانه وتعالى حيث إنه سبحانه أمر عباده بالتوحيد ثم الصلاة ثم الصيام ثم الحج، فلم يكن سبحانه قد أنزل تشريعه على عباده جملة واحدة، وإنما أنزله عليهم شيئاً فشيئاً حتى تكامل التشريع.

وليس عائداً على أفعال المكلفين وقيامهم به إذ إن الآية ليس المراد بها أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة وأنه فعل ذلك وقام به، وإنما المراد أن الله أكمل التشريع، فالإكمال المشار إليه في الآية عائد إلى المؤمن به.

ولا يلزم من كمال الدين وتمامه من جهة المؤمن به أن يكون الناس متساوين فيما أمروا به من الإيمان، كما فهمه هؤلاء، فإن هذا من أصول غلطهم، فإنهم ظنوا أن الإيمان شيء واحد، وأنه يستوي فيه جميع المكلفين. وغلطهم في هذا ظاهر، لأن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده يتنوع ويتفاضل، وهم يتباينون فيه تبايناً عظيماً، فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر. ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على العلماء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم، وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق والإقرار فإن الناس وإن كان يجب عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به، وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلاً، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به، فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها، فيجب عليه من الإيمان والعمل ما لا يجب على غيره، وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر الله به من الزكاة ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره، فجيب عليه من العمل والإيمان ما لا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان، وإن جعل جميع ذلك داخلاً في مسمى الإيمان كان أبلغ فبكل حال قد وجب عليه من الإيمان ما لا يجب على غيره (٢).


(١) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص١٢٤)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص٤٠٣)، ((إتحاف السادة المتقين)) (٢/ ٢٦١)، ((تحفة القاري)) (ص٤٧).
(٢) انظر ((الفتاوى)) (١٣/ ٥٢، ٥٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>