للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكيف يقال بعد هذا إن زيادة الإيمان غير متصورة ولا مجال لها بعد عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فه الإيمان المأمور به من وجب عليه الحج لوجود الاستطاعة كالإيمان المأمور به من لم يجب عليه الحج لعدم وجودها؟ وهل الإيمان المأمور به من وجبت عليه الزكاة لاكتمال النصاب، كالإيمان المأمور به من لم يكن عنده مال يبلغ النصاب؟ وهل الإيمان الواجب على من علم بتفاصيل الشريعة ودقائق مسائلها كإيمان من لم يبلغه من الأمر والنهي إلا الشيء اليسير؟ وهل إيمان من آمن بالرسول باطناً وظاهراً ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين كإيمان من عرف الشرائع بتفاصيلها فآمن بها وعمل بها؟ لذا يقول شيخ الإسلام: "فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس، ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك" (١).

ولهذا فإن قولهم إن الزيادة غير ممكنة بعد اكتمال الشرع وغير متصورة بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم متعقب بما تقدم، بل إن الفرهاري شارح العقائد مع أنه من القائلين بعدم زيادة الإيمان ونقصانه قد تعقب هذا القول ونبه على غلطه، حيث قال بعد أن حكاه:"وفيه نظر لأن الإطلاع على تفاصيل الفرائض ممكن في غير عصر النبي صلى الله عليه وسلم فإن أحدنا لا يطلع على جميع الفرائض دفعة بل يطلع على بعضها فيؤمن به ثم على بعض آخر فيؤمن به، والإيمان يجب إجمالاً وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً" (٢).

٢ - ومن أجوبتهم قولهم: إن الإيمان له معنيان:

أحدهما: تصديق الجنان بما لابد من تصديقه وهو قوله صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ... " الحديث فمن أتى بهذا التصديق صدقاً من قلبه حرمه الله تعالى عن النار الشديدة المؤبدة التي أعدها للكافرين وإن زني وإن سرق وغن وإن أي: إن عمل الكبائر.

والمعنى الثاني: السكينة والطمأنينة التي تحصل للمقربين وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: ٤]، وقوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠] وقوله تعالى: لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الحديد: ٩].وخلاصة هذا: أن الإيمان قد يطلق على ما هو الأساس في النجاة وقد يطلق على الكامل المنجي بلا خلاف، فمن قال: لا يزيد ولا ينقص فمراده القدر الذي هو الأصل في النجاة، ومن قال يزيد وينقص أراد به الكامل (٣).قلت: لقد سأل رجل الحسن البصري رحمه الله عن الإيمان فقال: "الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: ٢] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا" (٤).

فبين رحمه الله أن للإيمان إطلاقين: أحدهما: أصل الإيمان الذي لا نجاة إلا بتحقيقه، والثاني كمال الإيمان الذي يحصل به النجاة المطلقة من نار جنهم والفوز بالدرجات العالية في الجنة.


(١) ((الفتاوى)) (١٣/ ٥٤).
(٢) ((النبراس شرح العقائد)) (ص٤٠٣) وانظر ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (ص١٢٢) ضمن ((مجموع شروح البخاري)).
(٣) انظر ((تحفة القاري)) (ص٤٤، ٤٦)، و ((إتحاف السادة المتقين)) (٢/ ٢٦١)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص٤٠٤).
(٤) رواه البيهقي في ((الاعتقاد)) (ص١٢٠)، وفي ((الشعب)) (١/ ٢١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>