للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانيا: مفهوم الإرجاء عند بعض فقهاء أهل السنة، والفرق بينهم وبين غلاة المرجئة: أمام هذا الانحراف الذي كان سببه الجدال حول مرتكب الكبيرة، وعلاقة الإيمان بالعمل، انعكس أثر هذا الجدال على بعض فقهاء أهل السنة، ممن تعرضوا لمثل هذه القضايا، فقالوا بنوع من أنواع الإرجاء الذي ذمه علماء السلف، وإن كانوا غدوه بدعة خفيفة، وسوف نبين مفهوم هذا الإرجاء عندهم فيما بعد، بعد أن نعرض لما يقال من سبب ظهور هذا الإرجاء في وسط أهل السنة؛ وذلك بالقول إن الأمة في هذه الفترة التي ظهر فيها القول بالإرجاء تعرضت لفتنة شديدة، أوقعت الأمة في حيرة، واضطراب، وكان من نتائجها احتدام الجدال حول مفهوم الإيمان، وعلاقته بالعمل، فإذا كانت المرجئة قد حدثت في السابق حول معنى الإرجاء اللغوي، الذي يتعلق بأحداث الفتنة، فإنه تطور، فيما بعد، ليتناول قضايا واسعة؛ كما يقول الدكتور محمد البهي: "اختلاف المسلمين في الرأي ابتدأ حول حوادث جزئية، وانتهى في آخرها بأن أصبح حول أمر عام؛ مثال ذلك حكم مرتكب الكبيرة؛ حيث انتهى الحديث عن الأشخاص المشاركين في الفتنة، وعلاقتهم بالكبيرة، ثم آل الأمر إلى أن صار موضوع الحكم بعيداً عن التشخيص؛ بحيث كان الانتقال من أمور جزئية إلى أمر كلي عام" (١).فمن الناحية التاريخية، نجد أن التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي يؤرخ لبداية الإرجاء البدعي؛ فيقول: "إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث" (٢)، فهل كان لهذه الهزيمة أثر في نشأة هذا الإرجاء، إذا علمنا أن جمهرة كبيرة من فقهاء الأمة شاركوا فيها، وسوف نقدم هذا العرض الموجز عن هذه الثورة؛ لبيان أثر هذه الفتنة في الافتراق، وظهور الجدال بين علماء الأمة حول مسائل الإيمان، والعمل، وغيرها من مسائل العقيدة. مما هو معلوم أن ثورة ابن الأشعث بدأت سنة "٨١ هـ"، وانتهت بالهزيمة في نهاية سنة "٨٣ هـ"، وقد شارك في هذه الثورة أعداد كبيرة من القراء، والفقهاء، فريق مع ابن الأشعث، وفريق مع الحجاج، وكان لهذه الثورة أثر في بروز المجادلات، فيما بعد، وملخص هذه الفتنة أن عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث بعثه الحجاج لقتال "قبيل صاحب الترك"، وكان هناك نوع من الكراهية بن الحجاج، وابن الأشعث (٣)، وكان ابن الأشعث يبيت فكرة الخروج على الحجاج؛ ومما يوضح ذلك ما قاله إسماعيل بن الأشعث عم عبدالرحمن للحجاج، قال: "لا تبعثه؛ فإني أخاف خلافه، فوالله، ما جاز جسر الفرات قط، فر أي لوال من الولاة عليه طاعة، وسلطان" (٤)، وبالفعل، توجه ابن الأشعث لحرب الترك، وهزمهم، "واستولى على أراضي واسعة، وملأ يديه من البقر، والغنم، والغنائم العظيمة، وقرر عند ذلك حبس الناس عن التوغل في أرض الترك، وقال: نكتفي بما أصبناه هذا العام من بلادهم، حتى نجيبها، ونعرفها" (٥)، وعندما علم الحجاج بتوقفه عن الغزو، بعث إليه يعيب عليه ذلك، فما كان من ابن الأشعث إلا إعلان خلعه للحجاج، واستعداده للكرة على العراق لقتاله، وعلل ذلك لجنده، ومن رافقه من الناس؛ فقال: "إن الحجاج يطلب منهم التوغل في أرض العدو؛ للتخلص منهم، فتكلم ابن الأشعث في خلع الحجاج، ولم يتكلم في خلع عبدالملك بن مروان" (٦).


(١) د. محمد البهي، الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، (ص٤٩)، بتصرف، ط٦، ١٤٠٢هـ، القاهرة.
(٢) الذهبي، ((سير أعلام النبلاء))، (٥/ ٢٧٥).
(٣) الطبري، ((تاريخ الأمم))، (٣، /٦١٧).
(٤) الطبري، ((تاريخ الأمم))، (٣، /٦١٨).
(٥) الطبري، (٣، /٦١٨).
(٦) الطبري، (٣، /٦٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>