للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن ثمة وقفة مهمة حول موقف مرجئة الفقهاء من الشاتم والساب، فإنهم وإن كفروا الشاتم ظاهرا وباطنا، فإن مأخذهم في ذلك فاسد، إذ هم يرجعون ذلك إلى أن وقوعه في السب والشتم دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام، فردوا الكفر إلى الاستحلال. وهذا مخالف لما عليه سلف الأمة من "أن سب الله، أو رسوله، كفر ظاهرا وباطنا، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء، وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل" (١).

يقول شيخ الإسلام في فسر مأخذ فرق المرجئة في تكفير الساب:

"ومنشأ هذه الشبهة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين، أو من حذا حذوهم من الفقهاء:

أنهم رأوا الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به، ورأوا أن اعتقاد صدقه لا ينافي السب والشتم بالذات، كما أن اعتقاد إيجاب طاعته لا ينافي معصيته، فإن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه، كما يترك ما يعتقد وجوب فعله، ويفعل ما يعتقد وجوب تركه.

ثم رأوا أن الأمة قد كفرت الساب، فقالوا: إنما كفر؛ لأن سبه دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام، واعتقاد حله: تكذيب للرسول، فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة، وإنما الإهانة دليل على التكذيب.

فإن فرض أنه في نفس الأمر ليس بمكذب، كان في نفس الأمر مؤمنا، وإن كان حكم الظاهر إنما يجري عليه بما أظهره.

فهذا مأخذ المرجئة ومعتضديهم، وهم الذين يقولون: الإيمان هو الاعتقاد، والقول.

وغلاتهم، وهم الكرامية، الذين يقولون: هو مجرد القول، وإن عري عن الاعتقاد. وأما الجهمية الذين يقولون: هو مجرد المعرفة والتصديق فقط، وإن لم يتكلم بلسانه، فلهم مأخذ آخر، وهو: أنه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول، لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن، كما لا ينفع المنافق إظهار خلاف ما في قلبه في الباطن" (٢)، ثم أفاض رحمه الله في الرد على هذه المقالة.

وبعد، فتلك هي معالم مسمى الإيمان عند فقهاء المرجئة، والتي ملخصها أنهم يحصرون الإيمان في القول دون العمل، قول القلب وقول اللسان، دون عمل القلب وعمل الجوارح، وأنهم يحكمون بكفر من لم يتكلم بلسانه مع قدرته عليه، وكفر إبليس وفرعون وغيرهما مع تصديق قلوبهم، وكفر الساب والشاتم. بل أن المرجئة الفقهاء جاء عنهم ذم الإرجاء، والتحذير منه، إذ ذكر شيخ الإسلام أن أبا حنيفة وأصحابه يذمون المرجئة (٣).ونقل رحمه الله قول أبي يوسف: "دعوا قول أهل الخصومات، وأهل البدع في الأهواء، من المرجئة، والرافضة، والزيدية، والمشبهة، والشيعة، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية" (٤).

فمن المرجئة التي يحذر منها هؤلاء؟ أجاب شيخ الإسلام عن ذلك، حيث بين أن المرجئة عندهم هم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم (٥).

المصدر:آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص ١٨٣


(١) انظر: ((الصارم المسلول)) (٣/ ٩٥٥)، وانظر منه (٣/ ٩٦٤).
(٢) ((الصارم المسلول)) (٣/ ٩٦٥ - ٩٦٦).
(٣) ((الفتاوى)) (١٣/ ٤١).
(٤) ((الفتاوى)) (١٦/ ٤٧٦).
(٥) ((الفتاوى)) (١٣/ ١٤)؛ وأما القول بأن ترك العمل لا يضر، فكما قال شيخ الإسلام إن هذا كفر صريح، لا يعرف له قائلا، ولعله قول الغالية. انظر: ((الإيمان)) (ص١٧٢) ((الفتاوى)) (٧/ ١٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>