للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الشفاعة مع المناقشة]

لقد أيد المعتزلة رأيهم في الشفاعة بشبهات نقلية وعقلية، منها ما يلي:

أولاً: الشبهات النقلية:

الشبهة الأولى:

قال تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: ٤٨].

وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: "الآية تدل على أن من استحق العقاب لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا ينصره؛ لأن الآية وردت في صفة اليوم ولا تخصيص فيها، فلا يمكن صرفها إلى الكفار دون أهل الثواب، وهي واردة فيمن يستحق العذاب في ذلك اليوم، لأن هذا الخطاب لا يليق إلا بهم، فليس لأحد أن يطعن على ما قلناه بأن يمنع الشفاعة للمؤمنين أيضاً، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهم لكان قد أغنى عنهم وأجزى، فكان لا يصح أن يقول تعالى: ... لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ... الآية، ولما صح أن يقول: .... وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ... الآية. وقد قبلت شفاعته صلى الله عليه وسلم فيهم. ولما صح أن يقول: ... وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ... ؛ لأن قبول الشفاعة وإسقاط العقاب ... أعظم من كل فداء يسقط به ما قد استحقوه من المضرة، بل كان يجب أن تكون الشفاعة فداء لهم عما قد استحقوه .. ولما صح أن يقول: ... وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ، وأعظم النصرة تخليصهم من العذاب الدائم بالشفاعة. فالآية دالة على ما نقوله من جميع هذه الوجوه" (١).

المناقشة:

إن استدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر باطل؛ وذلك لأن الشفاعة المنفية في الآية الشفاعة للكافرين، ويدل على ذلك ما يلي:

أولاً: إجماع المفسرين على أن المراد بالنفس في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ... الآية. النفس الكافرة، لا كل نفس، فهي من العام الذي أريد به الخاص. يقول القرطبي: "أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ... الآية. النفس الكافرة، لا كل نفس ... " (٢).ويقول الطبري: "قوله تعالى: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ .. الآية إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل" (٣).ويقول ابن الجوزي: "قوله تعالى: ... لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ... الآية قالوا: المراد بالنفس ههنا: النفس الكافرة، لا كل نفس؛ فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص ... " (٤).ويقول ابن كثير: "قوله تعالى: ... وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ... الآية يعني من الكافرين، كما قال تعالى: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: ٤٨]. وقوله تعالى: ... وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ... الآية [البقرة: ٤٨] أي: فدية كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ... الآية [آل عمران: ٩١]. ثم قال: فقد أخبر الله تعالى أنهم لما لم يؤمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ويتابعون على ما بعثه الله به ووافوا الله يوم القيامة فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة شافع، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ... " (٥).


(١) ((متشابه القرآن)) (١/ ٩٠، ٩١).
(٢) ((تفسير القرطبي)) (١/ ٣٧٩، ٣٨٠).
(٣) ((تفسير القرطبي)) (٢/ ٣٣).
(٤) ((زاد المسير)) (١/ ٧٧).
(٥) ((تيسير العلي القدير في اختصار تفسير ابن كثير)) (١/ ٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>