[المبحث الثامن: أثر عمل الجوارح في أعمال القلب]
أن الحديث عن عمل القلب وأهميته وتفصيل ذلك وبيان ارتباط أجزاء الإيمان بعضها ببعض من خلال ارتباط أعمال الجوارح به، وكونها فرعا له، وصورة لما فيه، ومقتضى لازما له - لا يعني أن أعمال الجوارح من الطاعات أو المعاصي لا تؤثر هي الأخرى على عمل القلب.
وحذرا من أن تشعر المباحث السابقة بذلك - رأيت أن اذكر ما يدل على اثر عمل الجارحة في عمل القلب، فبه تكتمل صورة التأثير المتبادلة، مما يدل دلالة أوضح على أن كلا منهما جزء من الحقيقة الواحدة الجامعة.
ولنبدأ ببيان اثر المعاصي على القلب، ثم نعقب ببيان اثر الطاعة عليه.
فأما آثار المعاصي في القلب فهي كثيرة جدا، وقد فصل الإمام الرباني ابن القيم كثيرا منها في كتاب: " الجواب الكافي "، وهاأنذا اقتبس بعضها موجزا وموضحا (١):
١ - حرمان العلم النافع: فان هذا العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئه، ولهذا كان السلف يرشدون تلاميذهم إلى ترك المعاصي، لكي يورثهم الله حقيقة العلم.
٢ - الوحشة بين العبد وربه: وهي وحشة لو اجتمعت لصاحبها ملذات الدنيا كلها لم تذهبها، ومن علاماتها وفروعها الوحشة بينه وبين أهل التقوى والإيمان.
٣ - الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه: فان الطاعة نور والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات.
قال ابن عباس: أن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وان للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.
٤ - وهن القلب: فلا تزال المعاصي توهنه حتى تزيل حياته بالكلية وهذا الوهن يظهر أثره على البدن، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم.
٥ - تقصير العمر ومحق بركته: بمقدار ما تمرض القلب وتذهب حياته، فان حقيقة الحياة هي حياة القلب، وعمر الإنسان هو مدة حياته، فكلما كثرت الطاعة زادت حياته، فزاد عمره الحقيقي، وكلما كثرت المعاصي أضاعت حياته وعمره.
٦ - أن العبد كلما عصى خفت عليه المعصية حتى يعتادها، ويموت إنكار قلبه لها، فيفقد عمل القلب بالكلية، حتى يصبح من المجاهرين بها المفاخرين بارتكابها، واقل ذلك أن يستصغرها في قلبه، ويهون عليه إتيانها حتى لا يبالي بذلك، وهو باب الخطر.
روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في اصل جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على انفه فقال به هكذا فطار.
٧ - الذل: فالمعصية تورث الذل ولا بد، فالعز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: ١٠]. أي فليطلبها بطاعة الله فانه لا يجدها إلا في طاعته.
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.
وقال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وقال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها
وهل افسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها