للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية]

ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن رؤية الله تعالى جائزة عقلا وواقعة فعلا في الآخرة، واستدلوا على ذلك بالنقل والعقل:

أولا: من جهة النقل استدلوا بأدلة كثيرة منها:

أولا: قوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: ١٤٣].

والاستدلال بالآية من عدة أوجه:

الوجه الأول: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئيا لما سأل، لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعها أو يجهله، فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال الممتنع لأنه عبث ينزه الأنبياء عنه، وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما، وقد وصفه الله تعالى بذلك. قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: ١٤٤] فالمقصود من البعثة والرسالة هو الدعوة إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة الموافقة لدين الله وشرعه، فالسؤال دل على عدم الامتناع وكونه رسولا مصطفى مختارا يمنع عليه الجهل بمن أرسله واصطفاه (١).

واعترضت المعتزلة على هذا الدليل بوجوه:

فعلى الوجه الأول: أولا: قال الكعبي: إن موسى عليه السلام لم يطلب الرؤية وإنما طلب العلم، وعبر بها عن لازمها الذي هو العلم الضروري وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع، فكأنه قال: اجعلني عالما بك علما ضروريا، وهذا أيضا تأويل أبي الهذيل العلاف ووافقه الجبائي وأكثر البصريين (٢).

وقد أجيب على هذا الوجه من طريقين: ١ - قال القاضي عبد الجبار: (وقد أجاب شيخنا أبو الهذيل عن هذا؛ بأن الرؤية ههنا بمعنى العلم، ولا اعتماد عليه لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجردت فأما إذا قارنها النظر فلا تكون بمعنى العلم) (٣).

٢ - كما أجاب أهل السنة فقالوا: إن الرؤية المقرونة بالنظر الموصول بإلى نص في الرؤية، فلو كانت الرؤية المطلوبة في أَرِنِي بمعنى العلم لكان النظر المترتب عليه بمعناه أيضا، وإن كان استعمال النظر بمعنى العلم جائزا إلا أنه في حال وصله بإلى يكون بعيدا مخالفا للظاهر ولا تجوز مخالفة الظاهر إلا بدليل، ولا دليل فوجب حمله على الرؤية بالعيان، ويمتنع حمل الرؤية على العلم الضروري ههنا أيضا، لأنه يلزم أن لا يكون موسى عالما بربه ضرورة مع أنه يكلمه من غير وساطة وإنما طلب الرؤية شوقا إليها بعد سماع الكلام، فدعوى عدم العلم غير معقولة حيث إن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد وما هو معلوم بالنظر ليس كذلك. ولأنه تعالى أجاب موسى بقوله لَن تَرَانِي، وهذا نفي للرؤية لا للعلم الضروري. وعلى هذا الإجماع منا ومنهم، والجواب ينبغي أن يطابق السؤال ولو حمل سؤال موسى على طلب العلم لم يكن هذا جوابه (٤).

الاعتراض الثاني من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز:


(١) ((شرح المواقف)) (٨/ ١٠٧)، ((شرح المقاصد)) (٢/ ٨٢).
(٢) ((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (١٩٨)، ((شرح المواقف)) (٨/ ١١٧).
(٣) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٦٢).
(٤) ((شرح المواقف)) (٨/ ١١٧)، ((شرح المقاصد)) (٢/ ٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>