للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن موسى عليه السلام لم يسأل الله أن يريه ذاته وإنما سأله أن يريه علما من علومه ويكون تقدير الكلام (أرني أنظر إلى علمك) فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فقال: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:١٤٣] فتكون الرؤية المطلوبة متعلقة بالعلم ويكون المعنى أرني علما من علومك أنظر إلى علمك. هذا تصوير الاعتراض. وقد أجاب الباقلاني عن هذا الاعتراض فقال: (إن هذا غير جائز في اللغة لأن القائل لا يجوز أن يقول لمن يسمع كلامه ويعرفه ولا يشك فيه أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ وهو يريد "عرفني نفسك" أو "أرني فعلا من أفعالك" هذا غير مستعمل في اللسان، ولأن النظر إذا أطلق فليس معناه إلا رؤية العين وإن أريد به العلم فبدليل، ولأن النظر الذي في الآية معدى بقوله: "إليك" والنظر المعدى بـ "إلى" لا يجوز في كلام العرب أن يراد به إلا نظر العين) (١).

وقال الجرجاني في شرحه للمواقف في الجواب عن هذا الاعتراض: إنه خلاف الظاهر فلا يرتكب إلا لدليل ومع ذلك لا يستقيم:

أما أولا: فلقوله لَن تَرَانِي فإنه نفي لرؤيته تعالى لا لرؤية علم من أعلامه بإجماعهم فلا يطابق الجواب السؤال حينئذ. وأما ثانيا: فلأن تدكدك الجبل الذي شاهده موسى عليه السلام من أعظم الأعلام فلا يناسب قوله وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ المنع من رؤية العلامة المستفادة من قوله لَن تَرَانِي على هذا التأويل بل يناسب رؤيتها، وأيضا قوله فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ لا يلائم رؤيتها لأن الآية في تدكدك الجبل لا في استقراره (٢).

الاعتراض الثالث من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز:

ما قاله أبو علي وأبو هاشم (إن السؤال لم يكن سؤال موسى وإنما كان سؤالا عن قومه، والذي يدل عليه قوله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء: ١٥٣] وقوله عز وجل: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: ٥٥] فصرح تعالى بأن القوم هم الذين حملوه على هذا السؤال. ويدل عليه أيضا قوله حاكيا عن موسى عليه السلام: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء [الأعراف: ١٥٥] فبين أن السؤال سؤال عن قومه وأن الذنب ذنبهم) (٣).

قال الزمخشري: (فما طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في إلحاحهم وقالوا لا بد ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأرادوا أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله لَن تَرَانِي ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبه فلذلك قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:١٤٣].


(١) ((التمهيد للباقلاني)) (٢٧٢).
(٢) ((شرح المواقف)) (٨/ ١١٨).
(٣) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٦٢)، ((الأربعين في أصول الدين)) (١٩٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>