وقد يسأل سائل: وما الذي يريده هؤلاء من تأليف هذه الكتب، ونشر هذا الجنون والهذيان؟! ولست أنا الذي سأجيب عن هذا السؤال، وإنما سأثبت الجواب من كلام الجيلي نفسه. إنه يقول بالنص:"اعلم أن الله تعالى إنما خلق جميع الموجودات لعبادته، فهم مجبولون على ذلك مفطورون عليه من حيث الأصالة، فما في الوجود شيء إلا هو يعبد الله بحاله ومقاله وفعاله، بل بذاته وصفاته، فكل شيء في الوجود مطيع لله تعالى، لقوله تعالى للسماوات والأرض اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:١١] وليس المراد بالسماوات إلا أهلها، ولا بالأرض إلا سكانه. وقال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:٥٦] ثم شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يعبدونه بقوله ((كل ميسر لما خلق له)) (١) لأن الجن والإنس مخلوقون لعبادته وهم ميسرون لما خلقوا له، فهم عباد الله بالضرورة، ولكن تختلف العبادات لاختلاف مقتضيات الأسماء والصفات، لأن الله تعالى متجل باسمه المضل، كما هو متجل باسمه الهادي، فكما يجب ظهور أثر اسمه المنعم، كذلك يجب ظهور أثر اسمه المنتقم. واختلاف الناس في أحوالهم لاختلاف أرباب الأسماء والصفات، قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:٢١٣] يعني عباد الله مجبولون على طاعته من حيث الفطرة الأصلية، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليعبده من اتبع الرسل من حيث اسمه المضل، فاختلف الناس وافترقت الملل وظهرت النحل، وذهبت كل طائفة إلى ما علمته أنه صواب.
ولو كان ذلك العلم عند غيرها خطأ ولكن حسنه الله عندها ليعبدوه من الجهة التي تقتضيها تلك الصفة المؤثرة في ذلك الأمر، وهذا معنى قوله مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:٥٦] فهو الفاعل بهم على حسب ما يريد مريده، وهو عين ما اقتضته صفاته، فهو سبحانه وتعالى يجزيهم على حسب مقتضى أسمائه وصفاته، فلا ينفعه إقرار أحد بربوبيته ولا يضره جحود أحد بذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتصرف فيهم على ما هو مستحق لذلك من تنوع عباداته التي تنبغي لكماله، فكل من في الوجود عابد لله تعالى، مطيع لقوله تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:٤٤] لأن من تسبيحهم ما يسمى مخالفة ومعصية وجحوداً وغير ذلك، فلا يفقهه كل أحد، ثم إن النفي إنما وقع على الجملة، فصح أن يفقهه البعض؛ فقوله وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ يعني من حيث الجملة، فيجوز أن يفقهه بعضهم" (ص١٢٠).
وبعد أن يذكر الجيلي طوائف الناس ومللهم يقول:"فكل هذه الطوائف عابدون لله تعالى كما ينبغي أن يعبد لأنه خلقهم لنفسه لا لهم فهم له كما يستحق ثم إنه سبحانه وتعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف"(ص١٢٢).