واعلم أن هذا البحر المحيط المذكور، وما كان منه منفصلاً عن جبل (ق) مما يلي الدنيا فهو مالح وهو البحر المذكور، وما كان منه متصلاً بالجبل فهو وراء المالح، فإنه البحر الأحمر الطيب الرائحة وما كان من وراء جبل (ق) متصلاً بالجبل الأسود فإنه البحر الأخضر، وهو من الطعم كالسم القاتل، ومن شرب منه قطرة هلك، وفني لوقته، وما كان منه وراء الجبل يحكم الانفصال والحيطة والشمول بجميع الموجودات فهو البحر الأسود الذي لا يعلم له طعم ولا ريح ولا يبلغه أحد، بل وقع به الأخبار، فعلم وانقطع عن الآثار فكتم.
وأما البحر الأحمر الذي نشره كالمسك الأذفر فإنه يعرف بالبحر الأسمى ذي الموج الأنمى، رأيت على ساحل هذا البحر رجالاً مؤمنين، ليس لهم عبادة إلا تقريب الخلق إلى الحق، قد جبلوا على ذلك، فمن عاشرهم أو صاحبهم عرف الله بقدر معاشرتهم، وتقرب إلى الله بقدر مسايرتهم، وجوههم كالشمس الطالع والبرق اللامع، يستضيء بهم الحائر في تيهات القفار، ويهتدي بهم التائه في غيابات البحار، إذا أرادوا السفر في هذا البحر نصبوا شركاً لحيتانه، فإذا اصطادوا ركبوا عليها لأن مراكب هذا البحر حيتانه، ومكتسبه لؤلؤه ومرجانه، ولكنهم عند أن يستووا على ظهر هذا الحوت ينتعشون بطيب رائحة البحر فيغمى عليهم، فلا يفيقون إلى أنفسهم، ولا يرجعون إلى محسوسهم ما داموا راكبين في هذا البحر، فتسير بهم الحيتان إلى أن يأخذوا حدها من الساحل، فتقذف بهم في منزل من تلك المنازل، فإذا وصلوا إلى البر وخرجوا من ذلك البحر، رجعت إليهم عقولهم، وبان لهم محصولهم فيظفرون بعجائب وغرائب لا تحصر، أقل ما يعبر عنها، بأنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (ص١١٨).
وفي ختام هذا الهذيان يقول الجيلي:
"وأما البحر السابع فهو الأسود القاطع، لا يعرف سكانه، ولا يعلم حيتانه، فهو مستحيل الوصول غير ممكن الحصول، لأنه وراء الأطوار وآخر الأكوار والأدوار، لا نهاية لعجائبه، ولا آخر لغرائبه، قصر عنه المدى فطال، وزاد على العجائب حتى كأنه المحال، فهو بحر الذات الذي حارت دونه الصفات، وهو المعدوم الموجود والموسوم والمفقود والمعلوم والمجهول والمنقول والمحتوم والمعقول، وجوده فقدانه، أوله محيط بآخره وباطنه مستو على ظاهره، لا يدرك ما فيه، ولا يعلمه أحد فيستوفيه، فلنقبض العنان عن الخوض فيه والبيان وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:٤] وعليه التكلان" (ص١١٨) أ. هـ.
وهكذا يكون الهذيان مختوماً بقوله تعالى وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:٤] .. أعرفتم الحق الذي يدعونا إليه الجيلي ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة والزنادقة؟ إنه هذا الهذيان الذي لا أول له ولا آخر.
المصدر:الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص١٥٦ - ١٦٤