[الفصل الخامس: الأصل الرابع المنزلة بين المنزلتين]
إن هذا الأصل هو نقطة البدء في نشأة المعتزلة، وقد سبق أن أشرت عند الحديث عن نشأة المعتزلة، وسبب تسميتهم أن هذا الأصل هو سبب الاختلاف بين واصل والحسن حيث أتى واصل برأي خاص في مرتكب الكبيرة، وعلى إثره طرده الحسن البصري، فاعتزل في سارية من سواري مسجد البصرة يقرر هذا الرأي على من انضم إليه واستحسن رأيه، فسماهم الناس من ذلك الحين المعتزلة، وبدأ مذهبهم يظهر إلى الوجود بصفة مستقلة. يقول الشهرستاني:"دخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان ... وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا اعتقاداً؟ ففكر الحسن وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل في ناحية من المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزلنا واصل. فسموا من ذلك الحين المعتزلة ... "(١).
وقد كان من العوامل التي دعت إلى إثارة هذا النقاش حول مرتكب الكبيرة أن الحروب السياسية من مقتل عثمان ووقعة الجمل وصفين جعلت الناس يتساءلون من المحق، ومن المخطئ؟ ثم انتقلوا من ذلك إلى القول: بأن المخطئ كافر أو مؤمن، فكانت الخوارج تقول بكفر مرتكبي الذنوب، والمرجئة تقول: إنهم مؤمنون كاملو الإيمان، وأهل السنة يقولون: إنهم مؤمنون ناقصوا الإيمان، قد نقص إيمانهم بقدر ما ارتكبوا من الكبائر، فقال واصل: إنهم فاسقون في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان.
بعد هذا التقديم ننتقل إلى معرفة ما هو المقصود بالمنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة، ثم عرض ما تيسر من شبهاتهم، ومناقشتهم، ثم بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، فنقول وبالله التوفيق.
أولاً: ما المقصود بالمنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة؟
(١) ((الملل والنحل)) (١/ ٦٠)، وانظر ((الفرق بين الفرق)) (ص٧).