للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الرابع: أدلة الأشاعرة والجواب عنها اعتمد الأشاعرة في نفي تعليل أفعاله تعالى بالأغراض والغايات على حجج عقلية، وقد ذكرها الرازي في كتابه (الأربعين) (١). وسنورد هذه الأدلة مع إيراد جواب المثبتين للتعليل عنها.

الدليل الأول:

أن كل من فعل فعلا لأجل تحصيل مصلحة، أو دفع مفسدة، كان ناقصا بذاته، مستكملا بذلك الفعل، وذلك محال في حق الله تعالى.

وتقرير ذلك:

أن من فعل فعلا لأجل تحصيل مصلحة، فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها، كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل تلك الأولوية، وكل من كان كذلك، كان ناقصا بذاته، مستكملا بغيره، والاستكمال بالغير في حق الله تعالى محال.

وإن كان تحصيلها وعدم تحصيلها بالنسبة إليه سواء، فحينئذ لا يحصل منه ترجيح أحدهما على الآخر، ومع عدم ترجيح التحصيل يمتنع التحصيل.

وقد نوقش هذا الدليل بما يلي:

١ - قولكم: إنه يكون ناقصا بذاته غير لازم؛ لأن الحكمة قبل حصولها لا تعتبر كمالا، وما ليس بكمال في وقت لا يعتبر عدمه نقصا فيه. فالكمال إذا كان مترتبا على الفعل امتنع حصوله قبل الفعل فلا يكون عدمه قبل الفعل نقصا.

٢ - أما قولكم: إنه يلزم من ذلك أن يكون مستكملا بغيره، إن أردتم به أن الحكمة التي فعل لأجلها حصلت له من شيء خارج عنه، فذلك باطل؛ لأنه لا رب سواه، ولم يستفد من غيره كمالا بوجه من الوجوه.

وإن أردتم أن تلك الحكمة غير له وهو مستكمل بها. فيقال: إن تلك الحكمة صفته سبحانه، وصفاته ليست غيرا له، فإن حكمته قائمة به، وهو الحكيم الذي له الحكمة كما أنه العليم الذي له العلم، والقدير الذي له القدرة.

الدليل الثاني:

لو كان فعله تعالى معللاً بعلة، فهذه العلة إما أن تكون قديمة، فيلزم من قدمها قدم الفعل، لأن العلة التامة يجب أن يكون معها معلولها في الزمان، وهذا خلاف ما قام عليه الدليل من أن كل ما سوى الله تعالى حادث.

وإن كانت هذه العلة حادثة، فإن حدثت لا لسبب، لزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح وهو محال.

وإن حدثت لسبب حادث، نقلنا الكلام إلى ذلك السبب الحادث، فإن حدث لا لعلة لزم الترجيح بلا مرجح. وإن حدث لعلة فتلك العلة لابد لها من علة أخرى وهكذا فيلزم التسلسل.

وقد نوقش هذا الدليل بما يلي:

١ - قولكم: إن كانت العلة قديمة لزم من قدمها الفعل وهو محال. فالجواب: أنه لا يخلو: إما أن يكون الفعل قديم العين، أو قديم النوع، أو لا يمكن واحد منهما.

فإن أمكن أن يكون قديم العين، أو النوع، أمكن في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون كذلك. وإن لم يمكن أن يكون الفعل قديم العين ولا النوع، بل هو حادث العين أو النوع كانت الحكمة كذلك، فالحكمة يحذى بها حذو الفعل، فما جاز على الفعل جاز عليها، وما امتنع عليه امتنع عليها.

٢ - إن غاية هذه الحجة لزوم التسلسل، فإنه إذا كان يفعل لعلة فهذه العلة تحتاج إلى علة أخرى وهكذا. فيقال:

إن كان هناك تسلسل فهو في الآثار المستقبلة وهو ممكن، بل واجب باتفاق جماهير المسلمين، لأن نعيم الجنة دائم لا يقف عند حد إذ ما من نعيم إلا وبعده نعيم إلى لا نهاية.

وإنما قلنا يكون التسلسل في الآثار المستقبلة، لأن الحكمة التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده.

فإذا اقتضت هذه الحكمة حكمة أخرى بعدها، كان هناك تسلسل في الحوادث المستقبلة وهو جائز، ولم ينازع فيه إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة كالجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف.


(١) راجع كتاب محمد بن عمر الرازي: ((الأربعين في أصول الدين)) (ص: ٢٤٩ - ٢٥١).

<<  <  ج: ص:  >  >>