للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"هذا التسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل، فإذا كانت تلك الحكمة يطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلا في المستقبل، وتلك الحكمة الحاصلة محبوبة له، وسبب لحكمة ثانية، فهو لا يزال سبحانه يحدث من الحكم ما يحبه ويجعله سببا لما يحبه" (١).

أما التسلسل الممنوع فهو التسلسل في العلل والفاعلين، وذلك بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله، وكذلك ما قبله إلى غير نهاية. وهذا محال باتفاق العقلاء؛ لاستلزامه اجتماع علل غير متناهية مترتبة في وقت واحد، إذ العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها زمانا.

الدليل الثالث:

أن جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين:

تحصيل اللذة والسرور، ودفع الألم والحزن، والله تعالى قادر على تحصيل المطلوب ابتداء بدون وسائط.

وكل من كان قادرا على تحصيل المطلوب بدون وسائط، كان توسله إلى تحصيل ذلك المطلوب بتلك الوسائط عبثا، والعبث محال في حقه تعالى.

وقد نوقش هذا الدليل بما يلي:

١ - لا يلزم إذا كان الشيء مقدورا ممكنا أن يكون ممكنا وجوده بدون وجود ما يتوقف عليه.

فإن الموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه، كما يمتنع وجود الابن يوصف كونه ابنا بدون الأب، لأن وجود الملزوم بدون لازمه محال.

فإذا كان الأمران مقدورين لم يكن العدول عن أحدهما إلى الآخر عبثا إلا إذا تساويا من كل وجه. ولا يمكن تساويهما؛ فإن إرسال الرسل لهداية الناس، والله قادر على هدايتهم بدون إرسال الرسل، ولكن إرسالهم وعدم إرسالهم لا يتساويان؛ ذلك أن إرسالهم به قطع الله حجة من لم يؤمن.

ومما تقدم يتبين بطلان قولهم: من كان قادرا على تحصيل المطلوب ابتداء كان توسله إلى تحصيله بواسطة عبثا؛ وذلك لأن الواسطة إذا كانت شرطا أو سببا كان لابد من وجودها، لأن المشروط متوقف على شرطه، وكذلك المسبب متوقف على سببه، فإيجادها لفائدة لا عبثا، لأن العبث هو ما لا فائدة له.

ثم إن قولكم: إن العبث على الله محال، يلزم منه ألا يفعل الله إلا لحكمة.

٢ - قولكم: إن جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين: تحصيل اللذة والسرور، ودفع الألم والحزن، إذا أردتم به أن حكمة الله هي ما ذكرتم فهي دعوى بلا برهان، لأن حكمة الرب تعالى فوق تحصيل اللذة ودفع الألم، بل هو يتعالى عن ذلك لأن ما ذكر غرض المخلوق، أما الخالق سبحانه فهو غني بذاته عن كل ما سواه، حكمته سبحانه لا تشابه حكمة المخلوقين، كما أن إرادته وسائر صفاته لا تشابه صفات المخلوقين.

فحكمته سبحانه أجل وأعلى من أن يقال: إنها تحصيل لذة، أو دفع ألم وحزن.

الدليل الرابع:

لو كانت أفعاله معللة بالأغراض والحكم، ما خلا فعل من أفعاله عن الحكمة، لكن التالي باطل: لأننا نشاهد في هذه الدنيا من أنواع الكفر والشرور والفتن الكثير، فما هي الحكمة في إيجادها؟ وأي حكمة في تعذيب الكفار تعذيبا دائما في الآخرة؟ بل وأي حكمة في إيلام الأطفال والبهائم؟ فدل ذلك أنه تعالى إنما يفعل بمحض المشيئة وصرف الإرادة (٢).

وأجيب عن هذا الدليل بالتالي:

١ - أن الحكمة إنما تتعلق بالوجود والحدوث. والكفر والشرور وأنواع المعاصي إنما هي نتيجة لترك ما أمر الله، فهي عقوبة على ترك داعي الفطرة وعدم الطاعة.


(١) ابن تيمية، ((منهاج السنة النبوية)) (١/ ٤٥).
(٢) كل الأدلة المذكورة أوردها الرازي في كتاب ((الأربعين في أصول الدين)) (ص: ٢٤٩ - ٢٥١).

<<  <  ج: ص:  >  >>