ونحن عندما التزمنا الحكمة إنما التزمناها فيما يفعله الله ويوجده، أما ما يتركه فهو وإن كان لحكمة إلا أنه لا يدخل في كلامنا فلا يرد علينا، فإذا ترك العبد ونفسه نتيجة عصيانه، ففعل الشر كان حدوث الشر بسبب أنه وكل العبد لنفسه، ولم يخلق فيه قدرة الطاعة، وهذا لا يدخل تحت الفعل، فالشر لا ينسب إلى الله لأنه عدم الخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء كاسمه.
فحينما نقول: إن أفعال الرب تعالى واقعة بحكمة وغاية محمودة لم يرد علينا تركه.
والله سبحانه وتعالى قد يترك ما لو خلقه لكان في خلقه له حكمة، ولكنه يتركه لعدم محبته لوجوده، أو لكون وجوده يضاد ما هو أحب إليه، فلما كان وجوده يستلزم فوات ما هو أحب إليه فإنه يتركه.
٢ - أن الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات، والمتقابلات؛ كخلق الليل والنهار، والعلو السفل، والطيب والخبيث، والحلو والمر، والبرد والحر، والألم واللذة، والمرض والصحة، والحياة والموت.
فخلق هذه المتقابلات دليل على الحكمة الباهرة والملك التام، والقدرة القاهرة.
وصفات الله سبحانه وتعالى لكل صفة منها مقتضيات وآثار هي مظهر كمالها، وإن كانت كاملة في نفسها، لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها، فلا يجوز تعطيلها.
فإن صفة القدرة تستدعي مقدورا.
وصفة الخالق تستدعي مخلوقا.
وكذلك صفة الوهاب، الرزاق، المعطي المانع، الضار، النافع، المعز، المذل، الرحيم الجبار، كلها تقتضي آثارها وأحكامها.
فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق، والمرزوق، المرحوم، المعز، المذل، لم يظهر كمالها.
كما أن صفاته تعالى اقتضت أن يكون الخلق مؤمن وكافر، ومطيع وعاص. وإن كان الكفر نتيجة خذلان الله تعالى، فلا ظلم من الله تعالى إذا لم يمنع العبد حقا له بعدم توفيقه. والعصيان قد يكون عقوبة على ذنب اقترفه العبد فاقتضت صفاته ذلك ليكون من العاصي تضرع وإنابة إلى الله.
ومن المؤمن المطيع شكر له تعالى على هدايته وتوفيقه له. ولا شك أن التوبة والشكر نافعان، منفعتهما ترجع إلى العبد، وهما محبوبان لله عز وجل.
ولو كان الخلق كلهم مطيعين لتعطل أثر كثير من الصفات. وكيف كان يظهر أثر صفة العفو، والمغفرة، والانتقام، والقهر؟
٣ - وأما ما قلتم من تعذيب البهائم والأطفال ونحوه، فإننا لم نقل إن حكمة الله يجب – أو يمكن – إطلاع الخلق عليها في كل فعل له تعالى؛ فحكمة الله أعظم وأجل من أن يحاط بها. وقد يكون إخفاء الحكمة لحكمة جليلة.
وعلى هذا فما ذكرتم من الصور مشتمل على حكم جليلة، وإن خفيت علينا كما قال الله لملائكته: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: ٣٠].وإنما يلزمنا قولكم إذا ادعينا أن جميع الحكم معلومة ظاهرة للخلق، ونحن لا ندعي ذلك، بل نعتقد أنه لا يخلو فعل من أفعاله عن حكمة، سواء ظهرت أو خفيت (١).
النتيجة
إذا تأملنا أدلة الأشاعرة على نفي التعليل نجد أنها مجرد شبهات، لا تستند إلى نص من كتاب أو سنة، بل عولوا فيها على عقولهم، والعقل البشري ليس في إمكانه معرفة الصواب في كل شيء.
والواجب أن يخضع العقل في معرفة ذلك لما جاء في النصوص المعصومة عن الله ورسوله.
أما الأدلة التي يعول فيها على العقل وحده فقد تتضارب وتتناقض، ويتنازع أصحابها، ولا أدل على ذلك من اختلاف المعتمدين على العقل في أكثر المسائل. وعلى سبيل المثال مسألة تعليل أفعاله تعالى التي نحن بصددها فنجد المعتمدين على الأدلة العقلية اختلفوا فيها:
فالفلاسفة والأشاعرة ينفون أن تكون أفعاله تعالى لغاية وغرض؛ لئلا يلزم أن يكون ناقصا قبل ذلك ومستكملا بذلك الغرض.
والمعتزلة يوجبون تعليل أفعاله بالأغراض؛ لأن من يفعل لا لغرض يكون عابثا، والبعث قبح يتنزه الله عنه، وقد تقدم الكلام في ذلك.
وقد اضطر نفاة التعليل إلى تأول النصوص الدالة على التعليل، وصرفها عن معانيها بغير دليل سوى أن عقولهم لم تقبلها.
وخلاصة القول في الحكمة والتعليل:
أن الحق هو ما عليه السلف ومن وافقهم وهو:
أن أفعاله تعالى تعلل بالحكم والغايات الحميدة، التي تعود على الخلق بالمصالح والمنافع، ويعود إلى الله تعالى حبه ورضاه لتلك الحكم، وهذه الحكم مقصودة ويفعل لأجل حصولها، كما تدل عليه النصوص من القرآن الكريم والسنة. وقد أوردنا بعضها عند ذكر أدلتها على إثبات التعليل. والله أعلم.
المصدر:الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي - ص ٧٥
(١) راجع في الرد على أدلة نفاة التعليل كتاب ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: ٤٣٥ - ٤٦١).