للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الأول: معنى التزكية وأهميتها]

التزكية هي الأصل الثالث من الأصول العلمية للدعوة السلفية، ويقصد بها تنمية القلوب وإصلاحها وتطهيرها، يقولون زكاة الزرع إذا نما وصلح وبلغ كماله، وسميت صدقة المال الواجبة زكاة لأن المال يطهر بها وينمو، فهي طهارة للمال، وطهارة للمزكي، وطهارة للمجتمع، وعكس التزكية التدسية: وهي التصغير والتحقير حتى تصير النفس حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها، ومنه قوله عز وجل: أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل: ٥٩] أي يخفيه في التراب، وقد أقسم الله عز وجل في كتابه أحد عشر قسما متواليا على أن صلاح العبد منوط بتزكية نفسه، وخيبته منوطة بتدسية نفسه قال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: ١ - ١٠] قال الشيخ عطية سالم في تتمة (الأضواء): واختلف في موضع الضمير في (زَكَّاهَا دَسَّاهَا) وهو يرجع إلى اختلافهم في فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:٨] فهل يعود على الله تعالى كما في وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:٧]، أم يعود على العبد، ويمكن أن يستدل لكل قوم ببعض النصوص، فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى: بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:٤٩]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: ٢١]، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند هذه الآية: ((اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) (١) ومما استدل به للقول الثاني: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: ١٤ - ١٥]، وقوله: وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإلى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:١٨].

والذي يظهر والله أعلم، أن ما يتزكى به العبد، وعمل في طاعة وترك معصية فإنه بفضل من الله. كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح وترك المعاصي، في قولك (لا حول ولا قوة إلا بالله) بل إن في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء: ٤٩]، الجمع بين الأمرين القدري والشرعي، بل الله يزكي من يشاء بفضله، ولا تظلمون فتيلا بعدله، والله تعالى أعلم (٢). فصلاح العباد وفلاحهم وفوزهم ونجاتهم في تعهد أنفسهم بالإصلاح، وتطهير بواطنهم وظواهرهم من الشرك بالله عز وجل ومن سائر الصفات المذمومة، وتحليتها بالتوحيد واستسلامها للشرع المجيد.

وقد أجمع علماء القلوب على أن القلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة زكية، والله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا، فكل ما طابت النفس وزكت قربها الله عز وجل، فتسعد بالله عز وجل، وتأنس بالله عز وجل، وتستغني بالله عز وجل.


(١) رواه مسلم (٢٧٢٢)
(٢) باختصار من ((أضواء البيان)) (٩/ ٢٤٧ –٢٤٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>