للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكلما عصى العبد ربه وصغر نفسه وحقرها بمعصية الله طرده الله عز وجل عن حضرته، وأبعده بقدر جنايته، فتحدث الوحشة بينه وبين ربه عز وجل، وبينه وبين عباد الله المؤمنين، فلو حصلت له الدنيا بحذافيرها لم تعوضه هذه الوحشة.

فالواجب على كل مسلم حتى تزكو نفسه أن يستسلم لشرع الله عز رجل، بعد أن يتحقق قلبه بالتوحيد، وأن يكون بين يدي الشارع كالميت بين يدي الغاسل، ألا ترى أن الميت لا تكون له إرادة ولا هوى تخالف إرادة مغسله، بل يقلبه المغسل كيف يشاء، ويقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، وليس له إلا التسليم، وهذا معنى الإسلام وهو الاستسلام لشرع الله عز وجل.

قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. والشرع كله تزكية لنفوس العباد حتى يصلحوا لمجاورة الله في الجنة، فالتوحيد تزكية: قال الله تعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت: ٦ - ٧]، قال ابن كثير رحمه الله: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة. (١) والصلاة تزكية: قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: ٤٥].وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ما تقولون ذلك يبقى من درنه؟ قالوا لا يبقى من درنه شيئا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا)) (٢)

والصدقة تزكية: قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: ١٠٣]،

والحج تزكية: قال الله تعالى: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: ١٩٧] فالله عز وجل شرع لنا الشرائع من أجل أن تزكو نفوسنا، وأن تصلح دنيانا وآخرتنا، والله عز وجل أغنى وأعز من أن ينتفع بطاعات العباد، أو أن يتضرر بمعاصيهم كما في الحديث القدسي ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) (٣). بل العباد أنفسهم يتضررون بمعاصيهم، وهم أنفسهم ينتفعون بطاعاتهم، والله تعالى غني عنهم وعن طاعاتهم قال تعالى: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا [الحج:٣٧]، ألا ترى أن العباد يذبحون الهدايا والأضاحي ويأكلون لحومها، وهم مع ذلك يتقربون بها إلى الله عز وجل، لأنهم يستجيبون لأمر الله، ويستسلمون لشرعه، فالإيمان والعمل الصالح سبب سعادة الدنيا، أنه سبب سعادة الآخرة قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٧] والسعادة سعادة القلوب، والشقاء شقاء القلوب، والقلوب لا تسعد إلا بالله، ولا تطمئن إلا بذكره وطاعته قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨] فلا تسعد بالمال، ولا تسعد بالجاه، ولا تسعد بالشهرة، والتعاسة والشقاء تلاحقان العبد إذا تعلق القلب بغير الله حبا ورجاء وخوفا وتوكلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)) (٤).


(١) ((تفسير القرآن العظيم)) (٤/ ٩٢) دار المعرفة.
(٢) رواه البخاري (٥٢٨) ومسلم (٦٦٧) والدرن: الوسخ.
(٣) رواه مسلم (٢٥٧٧)
(٤) رواه البخاري (٢٨٨٦) تعس: دعاء عليه بالهلاك، القطيفة كساء له خمل والخميصة: ثياب خز (حرير) أو صوف معلمة، شيك: شاكته شوكه: انتقش: خرجت من جسمه.

<<  <  ج: ص:  >  >>