للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وصفوة القول أن يقال كلما زكى العبد نفسه بالتوحيد وطاعة العزيز الحميد كلما سعد، والعكس بالعكس، قال تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: ١٢٣ - ١٢٦].

قال ابن القيم رحمه الله:

وسمعت شيخ الإسلام قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

وقال مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا، ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ما شاء الله.

وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: ١٣]

وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا، وأسرهم، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه فيذهب ذلك. كله عنا، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه،

وفتح لهم أبوابا في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما أستفرغ قواهم طلبا والمسابقة إليها.

وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.

وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟

قيل: وما أطيب ما فيها قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره، أو نحو هذا.

وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا. وقال آخر: إنه لتمر

بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب.

فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة، بحيث يكون هو وحدة المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين. وإنما تقر أعين الناس بهم على حب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات (١) اهـ.

قال ابن القيم في (طريق الهجرتين):فوا أسفاه وواحسرتاه، كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها، وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزا وموته كمدا، ومعادة حسرة وأسفا، اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك (٢).


(١) ((الوابل الصيب)) بتحقيق بشير محمد عيون (٩٦ - ٩٨) دار البيان.
(٢) ((طريق الهجرتين)) (٢١١) السلفية.

<<  <  ج: ص:  >  >>