[المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة]
من جهة العقل: استدلوا على نفي رؤية الله تعالى بما يأتي:
أولا: دليل المقابلة: وتحريره كما قال عبد الجبار: (إن الواحد منا راء بحاسة، والرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا، ولا حالا في المقال، ولا في حكم المقابل، وهذه الدلالة مبنية على أصول:
أحدها: أن الواحد منا راء بالحاسة، وإذا كانت صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود يجب أن يرى، ومتى لم يكن كذلك فيجب أن يكون لصحة الحاسة في ذلك تأثير لأنه بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط.
الثاني: أن الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا، أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، وإذا كان كذلك وجب أن يرى، وإذا لم يكن مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل لم ير، فيجب أن تكون المقابلة أو ما في حكمها شرطا في الرؤية لأنه بهذه الطريقة يعلم تأثير الشروط.
الثالث: أن القديم تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل، لأن المقابلة والحلول إنما تصح على الأجسام والأعراض والله تعالى ليس بجسم ولا عرض فلا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل.
ويمكن إيراد هذه الدلالة على وجه آخر حتى لا يرد عليها بعض الاعتراضات التي يمكن ورودها على الأول، فيقال: إن أحدنا إنما يرى الشيء عند حصول شرطين:
أحدهما: يرجع إلى الرائي، والآخر يرجع إلى المرئي. فما يرجع إلى الرائي فهو صحة الحاسة، وما يرجع إلى المرئي فهو أن يكون للمرئي مع الرائي حكم وذلك الحكم هو أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل (١).
هذا تصوير لدليل المقابلة العقلي الذي أقامه المعتزلة على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار كما استدلوا به.
ثم أورد عبد الجبار بعد تحرير الدليل ما يمكن الاعتراض به عليه وأجاب عنه فقال:
(فإن قيل: كيف يصح قولكم إن الواحد منا لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل مع أنه يرى وجهه في المرآة مع أنه ليس بمقابل ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل؟
قلنا: إن وجهه في حكم المقابل لأن الشعاع ينفصل من نقطته ويتصل بالمرآة فيصير كالعين، ثم ينعكس لرأى قفاه، لأن الشعاع ينفصل من نقطة ويتصل بالمرآة المستقبلة، ثم ينعكس إلى المستديرة فيصير كالعين فترى قفاه.
فإن قيل: أليس الله تعالى يرى الواحد منا، وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل، فهلا جاز في الواحد منا أن يرى الشيء وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل؟
قيل له: إنما وجبت هذه القضية – أي وقعت - في القديم تعالى لأنه لا يجوز أن يكون رائيا بالحاسة، والواحد منا راء بالحاسة، فلا يعلم أن يرى إلا كذلك.
فإن قيل: ما أنكرتم من أن أحدنا إنما لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا له أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، لأنه تعالى أجرى العادة بذلك فلا يمتنع أن يختلف الحال فيه فيرى القديم جل وعز في دار الآخرة.
قيل له: إن ما يكون بمجرى العادة يجوز اختلاف الحال فيه، ألا ترى أن الحر والبرد يجب مثله في مسألتنا لو كان ذلك بالعادة، فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا وإن لم توجد الشروط في بعض الحالات لاختلاف العادة، بل كان يجب أن يرى المحجوب كما يرى المكشوف ومعلوم خلافه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن ذلك من باب ما تستمر العادة فيه كما في حصول الولد من ذكر وأنثى.
(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٤٨) بتصرف. ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (٢١٢).