وجوابنا: أنا لم نوجب فيما طريقه العادة أن يختلف الحال على كل وجه بل إذا اختلف من وجه واحد كفى، وما من شيء إلا والحال فيه مختلف على وجه، ألا ترى أن الولد قد يحصل لا من ذكر وأنثى فكان يجب مثله في مسألتنا حتى يصدق من أخبرنا أنه شاهد ما ليس بمقابل له ولا حال في المقابل ولا في حكم المقابل، أو شاهد أقواما يشاهدون الأشياء من دون أن تكون على هذا الوجه أو ما يجري مجراه وقد علم خلافه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الواحد منا إنما لا يرى إلا ما كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل لأمر يرجع إلى المرئي لا إلى الرائي؟
قيل له: هذا الذي ذكرته لا يصح لأنه كان يجب في القديم تعالى أن لا يرى هذه المرئيات لفقد هذا الحكم فيه والمعلوم خلافه.
فإن قيل: إنا نرى القديم تعالى بلا كيف كما نعلمه بلا كيف ولا يحتاج إلى أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل.
قيل له: إن هذا فيه قياس الرؤية على العلم من دون علة تجمعهما فلا يصح، فإن للعلم أصلا في الشاهد وللرؤية أصلا فيجب أن يرد كل واحد منها إلى أصله، فالعلم من حقه أن يتعلق بالمعلوم على ما هو به، ولهذا يتعلق بالموجود والمعدوم والمحدث والقديم، فإن كان معدوما علم معدوما، وإن كان موجودا علم موجودا، وغيره، وليس كذلك الرؤية، فإنها لا تتعلق إلا بالموجود. ولهذا لا يصح في المعدوم أن يرى.
فإن قيل: هلا جاز أن نرى القديم تعالى بحاسة سادسة فلا تجوز معها شروط الرؤية لأنها بخلاف هذه الحواس؟ قلنا: مخالفة تلك الحاسة لهذه الحواس ليس بأكبر من مخالفة هذه الحواس بعضها لبعض، فإن فيها سهلا وزرقا وملحا، ومعلوم أن هذه الحواس مع اختلافها واختلاف بناها متفقة في أن لا يرى الشيء بها إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، على أنه لا دلالة تدل على تلك الحاسة فلا يصح إثباتها. وبعد: فلو جاز أن نرى القديم تعالى بحاسة سادسة لجاز أن يذاق بحاسة سابعة وأن يلمس بحاسة ثامنة وأن يشم بحاسة تاسعة ويسمع بحاسة عاشرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) (١).
والجواب على هذا الدليل كما قال الرازي: من وجهين:
الأول: تعيين محل النزاع، وهو أن الموجود المنزه عن المكان والجهة هل تجوز رؤيته أم لا؟ فإن ادعيتم أن العلم بامتناع رؤيته ضروري فذلك باطل ويدل عليه وجوه:
الأول: أن البدهي متفق عليه بين العقلاء، وهذا غير متفق عليه فلا يكون بدهيا.
الثاني: أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين لم نجد القضية الأولى في قوة هذه الثانية.
الثالث: أن حكم الوهم والخيال في معرفة الله تعالى إما أن يكون مقبولا أو لا يكون مقبولا، فإن كان مقبولا لا يمتنع إثبات ذات منزه عن الكمية والكيفية والجهة، والمعتزلي يسلم أن ذلك باطل، وإن لم يكن مقبولا لم يكن حكم الوهم بأن ما كان منزها عن الجهة كان غير مرئي واجب القبول، لأن الوهم والخيال لما صار كل واحد منهما مردود الحكم في بعض الأحكام لم يبق الاعتماد عليهما في شيء من المواضع.
(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٤٨) بتصرف، ((المغني)) (٤/ ١٠٢).