للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبالجملة إن كان حكم الوهم حقا كان الحق مع المجسم، وإن كان مردودا كان الحق معنا، أما المعتزلي فإنه يرد حكمه في إثبات الجسم والجهة، ويقبل حكمه في مسألة الرؤية، وكان كلامه متناقضا، فثبت بما ذكرناه أن من نفى الرؤية بالوجه الذي ذكرناه لا بد وأن يعول في نفيها على الدليل لا على ادعاء الضرورة. وإن ادعيتم أن هذا العلم استدلالي فلا بد فيه من دليل. قولكم: فإن كل مرئي فلا بد وأن يكون مقابلا بقرب من أنه إعادة الدعوى، لأن المقابل هو الذي يكون مختصا بجهة قدام الرائي فكما أنكم قلتم الدليل على أن ما لا يكون في الجهة لا يكون مرئيا هو أن كل ما كان مرئيا يكون في الجهة. والمنطقيون يسمون هذه القضية الثانية عكس نقيض القضية الأولى، وفي الحقيقة لا فرق بين القضيتين في الظهور والخفاء، فلم يجز جعل أحدهما حجة في صحة الأخرى بل يقرب هذا من أن يكون إعادة المطلوب بعبارة أخرى.

والثاني:

ثبت أن المقابلة شرط للرؤية في الشاهد فلم قلتم: إنه في الغائب كذلك، وتحقيقه هو أن ذات الله تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤهما في اللوازم، فلم يلزم من كون الإدراك واجبا في الشاهد عند حضور هذه الشرائط كونه واجبا في الغالب عند حضورها، ومما يدل عليه أن الإدراك في الشاهد مشروط بشرائط ثمانية هي:

سلامة الحاسة، وكون الشيء بحيث أن يكون جائز الرؤية، وأن لا يكون في غاية البعد، وأن لا يكون في غاية القرب، وأن يكون مقابلا للرائي أو في حكم المقابل، وأن لا يكون في غاية اللطافة، وأن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب، وأن لا يكون في غاية الصغر، وفي الغالب نقطع بأنه لا يمكن اعتباره. وتمام الكشف والتحقيق أن المراد من الرؤية أن يحصل لنا انكشاف بالنسبة إلى ذاته المخصوصة وهو يجرى مجرى الانكشاف الحاصل عند إبصار الألوان والأضواء، وإذا كان الأمر كذلك فهذا الانكشاف يجب أن يكون على وفق المكشوف، فإن كان المكشوف مخصوصا بالجهة والحيز وجب أن يكون الانكشاف كذلك، وإن كان المكشوف منزها عن الجهة وجب أن يكون انكشافه منزها عن الحيز والجهة (١).

والحق أن الجواب عن دليل المعتزلة بتسليم نفي الجهة والمقابلة عن الله تعالى لا يستقيم حيث إن إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة مكابرة عقلية، لأن الجهة من لوازم الرؤية وإثبات الملزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة. ثم إن الثابت بالنصوص الصحيحة إثبات الرؤية لله تعالى كرؤية الشمس والقمر، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته. .)) الحديث (٢). وهما في جهة، وقد شبه صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية. ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((إنكم سترون ربكم عيانا)) (٣). إثبات للرؤية البصرية التي لا تتم إلا على ما كان في جهة.

ثم أن إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى ورد بالكتاب والسنة في مواضع كثيرة جدا فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى من هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى ولا يقدح هذا في التنزيه، لأن من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحق الله تعالى من صفات الكمال.

أما لفظ الجهة: فهو من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها، ولا إثباتها بالنص، فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ.

ثانيا: من أدلة المعتزلة دليل الموانع:

وقبل تقرير هذا الدليل لا بد لنا من ذكر مقدمة نوضح فيها المراد فنقول:

إن ما يجب حصول الإبصار عنده في الشاهد ثمانية شروط:

الأول: سلامة الحاسة.


(١) ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (١٩٠، ٢١٣، ٢١٧)، ((شرح المواقف)) للجرجاني (٨/ ١٣٩).
(٢) رواه البخاري (٥٥٤) , ومسلم (٦٣٣).
(٣) رواه البخاري (٧٤٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>