[المبحث الثامن: نقد موقف الأشاعرة من الخوارق والمعجزات]
ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى، وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عز وجل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان وجميع إحالة الطبائع وكل معجز للأنبياء عليهم السلام.
ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني:
أن الساحر يمشي على الماء على الحقيقة وفي الهواء ويقلب الإنسان حماراً على الحقيقة.
وأن كل هذا موجود من الصالحين على سبيل الكرامة.
وأنه لا فرق بين آيات الأنبياء وبين ما يظهر من الإنسان الفاضل ومن الساحر أصلا إلا بالتحدي، فإن النبي يتحدى الناس بأن يأتوا بمثل ما جاء هو به فلا يقدر أحد على ذلك قط.
وأن كل ما لم يتحد به النبي صلى الله عليه وسلم الناس فليست آية له.
وقطع بأن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على لسان متنبئ كاذب.
وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عيناً ولا يحيل طبيعة إلا الله عز وجل لأنبيائه فقط، سواء تحدوا بذلك أو لم يتحدوا ... وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره "الفصل ٥/ ٢".
فلا يجوز البتة وجود ذلك لا من ساحر ولا من صالح بوجه من الوجوه، لأنه لم يقم برهان بوجود ذلك، ولا صح به نقل، وهو ممتنع في العقل كما قدمنا، ولو كان ذلك ممكناً لاستوى الممتنع والممكن والواجب وبطلت الحقائق كلها، وأمكن كل ممتنع ومن لحق هاهنا بالسوفسطائية على الحقيقة.
ونسأل من جوز ذلك للساحر والفاضل هل يجوز لكل أحد غير هذين، أم لا يجوز إلا لهذين فقط؟
فإن قال: إن ذلك للساحر والفاضل فقط، وهذا هو قولهم سألناهم عن الفرق بين هذين وبين سائر الناس. ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد.
وإن قالوا إن ذلك جائز أيضاً لغير الساحر والفاضل لحقوا بالسوفسطائية حقاً، ولم يثبتوا حقيقة، وجاز تصديق من يدعي أنه يصعد إلى السماء ويرى الملائكة وأنه يكلم الطير ويجتبي من شجر الخروب التمر والعناب.
وإن رجالا حملوا وولدوا، وسائر التخليط الذي من صار إليه وجب أن يعمل بها هو أهله إن أمكن، أو أن يعرض عنه لجنونه وقلة حياته.
قال أبو محمد: لا فرق بين من ادعى شيئاً مما ذكرنا لفاضل وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي بن أبي طالب مرتين حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال:
فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى ... لهجتها فوق السماء المرجع
فو الله ما أدري على بدالنا ... فردت له أم كان في القوم يوشع
وكذلك دعوى النصارى لرهبانهم وقدمائهم: فإنهم يدعون لهم من قلب الأعيان أضعاف ما يدعيه. وكذلك دعوى اليهود لأحبارهم ورؤوس المثايب عندهم أن رجلا منهم رحل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد وأنه أثبت قرنين في رأس رجل مسلم من بني الإسكندراني كانوا أقواماً أشرافاً معروفين لم يعرف لأحد منهم شيء من هذا والحماقة لا حد لها وهذا برهان كاف لمن نصح نفسه "الفصل ٥/ ٣".
ما ذكره الباقلاني من التحدي باطل من وجوه أحدها أن اشتراط التحدي في كون آية النبي آية، دعوى كاذبة سخيفة لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من حجة عقل ولا قال بهذا أحد قط قبل هذه الفرقة الضعيفة وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والهجنة، قال الله عز وجل قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: ١١١] "الفصل ٥/ ٧".
المصدر:موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص ٨٨