للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة الرابعة: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق]

مذهب السلف في كلام الله تعالى، وفي القرآن، وأنه كلام الله غير مخلوق، واضح تمام الوضوح، وردودهم على المعتزلة في ذلك مشهورة، أكثر من أن تحصر. كما أنه قد اشتهر عنهم قولهم إن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، ومعناه أن الله هو المتكلم به، فمنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود في آخر الزمان حين يرفع من المصاحف والصدور.

فلما جاءت الكلابية والأشعرية وابتدعوا في كلام الله ما ابتدعوا، كان مذهبهم الذي تمسكوا به: أن كلام الله إنما هو معنى قائم بذاته وأن حروف القرآن ليست من كلام الله.

ولكن الأئمة من هؤلاء كابن كلاب والأشعري كانوا يقولون – مع ذلك ومع قولهم إن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله -: إن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة، ومن ثم كانوا يعترفون بأن هذا القرآن كلام الله، ويحترمونه.

فجاء بعد ذلك أقوام – من أتباعهم – فقالوا – في القرآن إنه "معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء، أو صنفها جبريل، أو محمد، فضموا إلى ذلك، أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه – لما رأوا أن مجرد كونه دليلا لا يوجب الاحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام؛ فإن الموجودات كلها أدلة عليه، ولا يجب احترامها، فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنهم من يكتب أسماء الله بالعذرة، اسقاطا لحرمة ما كتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته.

وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله، إهانة له، أنه كافر مباح الدم. فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذراعا وأميالا وفراسخ" (١).

ولاشك أن هذا الغلو والكفر الذي وقع فيه هؤلاء لا يرتضيه جمهور الأشاعرة، ولكن التعصب في بعض الأوقات قد يجر بعض الناس إلى مواقف وأقوال لا تليق، إظهارا لمذهبهم، وإبرازا لقناعتهم به. والأشعري يطلق على القرآن أنه كلام الله، ولكنه يقول إنه القرآن العربي مخلوق، خلقه الله في الهواء أو الجسم. وأما إطلاق أن هذا القرآن العربي كلام جبريل – عليه السلام – أو محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء من المنتسبين إليه ولم يكن قولا للأشعري (٢).ثم إن ابن كلاب كان يقول بأن القرآن حكاية عن كلام الله، فلما جاء الأشعري زاد فيه قليلا وقال: لا يجوز أن يقال إنه حكاية، لأن الحكاية قد تكون مطابقة للمحكي، كما يقال: حكى فلان الكلام بلفظه وهذا يناسب قول المعتزلة. والقرآن العربي ليس مطابقا لكلام الله القائم بنفسه، ومن ثم فالأولى عنده – أي عند الأشعري – أن يقال: هو عبارة عن كلام الله، لأن الكلام ليس من جنس العبارة (٣).

ويلاحظ مما سبق تطور أقوال الكلابية والأشعرية في القرآن:

- فالأولون كانوا يحترمونه، ثم خف احترامهم له إلى حد الامتهان، عند بعضهم.

- والأولون كانوا يطلقون أن القرآن كلام الله، وأنه مخلوق خلقه الله في الهواء أو في الجسم، فجاء المتأخرون ليقولوا – صراحة – هو كلام جبريل أو محمد.


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٤٢٥).
(٢) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (١٢/ ٥٥٧).
(٣) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (١٢/ ٢٧٢)، و ((التسعينية)) (ص: ٨٧، ٢٣٧ - ٢٣٨، ٢٦٦)، ((ودرء التعارض)) (٢/ ١٠٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>