المبحث الخامس: قولهم في الاستثناء في الإيمان اختلف الأشاعرة في الاستثناء، ومن جوَّزه منهم فباعتبار الموافاة، ومرادهم أن الإيمان هو ما مات عليه العبد، ويوافي به ربه، وهذا مجهول للعبد فيستثني لذلك. قال البغدادي:(والقائلون بأن الإيمان هو التصديق من أصحاب الحديث مختلفون في الاستثناء فيه، فمنهم من يقول به، وهو اختيار شيخنا أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك. ومنهم من ينكره، وهذا اختيار جماعة من شيوخ عصرنا، منهم أبو عبد الله ابن مجاهد، والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرائيني. وكل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان، قال بالموافاة، وقال: كل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا عُلم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنا. والواحد من هؤلاء يقول: أعلم أن إيماني حق، وضده باطل، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنا حقا، فيستثني في كونه مؤمنا، ولا يستثني في صحة إيمانه). وقال الجويني بعد تقرير أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص:(فإن قيل: قد أُثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال: إنه مؤمن إن شاء الله، فما محصول ذلك؟ قلنا: الإيمان ثابت في الحال قطعا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو عَلم على الفوز وآية النجاة، إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكيك في الإيمان الناجز). ومن كلام الأشاعرة في مسألة الموافاة، قول القرطبي:(قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالإيمان، فالله محب له، موال له، راض عنه. وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معادٍ له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه معادٍ له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لإيمانه الموافي به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة. ولأجل هذا قلنا: إن الله راضٍ عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام، ومريد لثوابه ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لإيمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به. وخالفت القدرية في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطاً على إبليس وقت عبادته، ولا راضياً عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله، وبما يوافي به عمر فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطاً على إبليس محباً لعمر ... ). والقول بالموافاة نسبه شيخ الإسلام إلى الأشعري وابن فورك، وبسط الكلام في ذلك في كتابه (الإيمان الكبير)، ومما قاله: (والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه. وما قبل ذلك لا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر، فيموت صاحبه كافرا، ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر؛ لعلمه بما يموت عليه.