للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمرجح عندهم إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان. قال الصاوي: (تقدم أن أعمال الجوارح من كمال الإيمان، فمن صدق بقلبه، ونطق بلسانه ولم يعمل بجوارحه فهو مؤمن ناقص الإيمان، فلما كان له مدخلية في كمال الإيمان، شَرع - أي صاحب الجوهرة - يتكلم على زيادته بالعمل، ونقصه بنقصه، فقال: (ورُجحت ... الخ) وهذا الترجيح لجمهور الأشاعرة والماتريدية، ومالك والشافعي وأحمد. وحجتهم العقل والنقل، أما العقل: فلأنه يلزم عليه مساواة إيمان المنهمكين في الفسق والمعاصي لإيمان الأنبياء والملائكة، واللازم باطل فكذا الملزوم. وأما النقل: فقوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:٣]، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ((قلت يا رسول الله: إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار)) (١)،. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح)) (٢)، وقال عمر في حق أبي بكر: (ليت عملي مدى عمري كيوم وليلة لأبي بكر، إنما أنا حسنة من حسناته). ومراد عمر باليوم والليلة يوم وفاته عليه الصلاة والسلام، وليلة الغار، فإنه رافقه في الغار، وثبت الناس حين دهشوا يوم الوفاة. وأيضا: فإن المشاهَد للشخص في نفسه أنه عند كثرة عبادته وذكره وإقباله على الله يجد في نفسه رقة ونورا، لم يوجد عند عدم الطاعة).وقال في (إتحاف المريد): (ورُجحتْ زيادة الإيمان) أي ورجح جماعة من العلماء القول بقبول الإيمان الزيادة ووقوعها فيه، (بما تزيد طاعة) أي بسبب زيادة طاعة (الإنسان) وهي فعله المأمور به، واجتناب المنهي عنه (ونقصه) أي الإيمان من حيث هو لا بقيد محل مخصوص، فلا يرد الأنبياء والملائكة إذ لا يجوز على إيمانهم أن ينقص (بنقصها) يعني الطاعة إجماعا، هذا مذهب جمهور الأشاعرة ... (وقيل) أي وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه وكثير من المتكلمين: الإيمان (لا) يزيد ولا ينقص؛ لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه ما ذكر).وادعى الرازي أن الخلاف لفظيٌ، فرعُ تفسير الإيمان، فإن قلنا: هو التصديق فلا يقبل الزيادة والنقصان، وإن قلنا: هو الأعمال قبل ذلك. والمرجح عند الأشاعرة أن الخلاف حقيقي، وأن التصديق نفسه يزيد وينقص. قال في (شرح المواقف): (والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان).وقال في إتحاف المريد: (لأن الأصح أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها).هذا ما عليه متأخرو الأشاعرة، وهو الذي استقر عليه مذهبهم. وقد ذهب إلى القول بالزيادة والنقصان جماعة من متقدميهم أيضا، كالبيهقي، وأبي منصور عبد القاهر البغدادي، وأبي القاسم القشيري، والآمدي، ثم النووي وصفي الدين الهندي وتقي الدين السبكي، على ما ذكره التاج السبكي في الطبقات.

المصدر:الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - ١/ ٢٣٨


(١) ذكره المناوي في ((الفتح السماوي)) (١/ ٤٢٣) وقال: أخرجه الثعلبي من رواية علي بن عبد العزيز، عن حبيب بن فروخ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن، عن مالك، عن نافع عنه.
(٢) رواه عبد الله بن أحمد في ((السنة)) (١/ ٣٧٨) (٨٢١) , والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (٣٥) , قال ابن حجر في ((الكافي الشاف)) (٦١): موقوف إسناده صحيح وروي مرفوعا, وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (٤١١): إسناده صحيح عن عمر من قوله, وقال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (٢/ ٢١٦): إسناده صحيح, وقال الشوكاني في ((الفوائد المجموعة)) (٣٣٥): إسناده موقوفاً على عمر صحيح, ومرفوعاً ضعيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>