كما تظهر وسطيتهم في كل الأمور العقدية الأخرى التي خالف فيها أصحاب الأهواء والبدع ومنها قضية الإيمان بالقدر فإن قضية القدر من المسائل الشائكة التي يجب فيها التسليم والرضا.
وكان لأهل السنة موقفهم الذي يعضده النقل معاً فقد تأكد في مذهبهم أن القدر سر الله تعالى وأن الواجب على المسلم الإيمان به دون تعمق لما وراء الأدلة وترك الاحتجاج به على فعل المعاصي والإيمان بتقدير الله تعالى لكل الأمور بمشيئته، وأن الله هو الخالق لكل شيء بما فيها أفعال العباد ولكنها لا تسمى فعل الله بل هي أفعال العباد والله هو الذي أقدرهم على فعلها ولو شاء لما فعلوها كما قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ [البقرة:٢٥٣] وهي مشيئته الكونية العامة وهذا بخلاف ما تقوله الجبرية الذين يرون أن الله هو الخالق لها ثم يضيفون قولهم الخاطئ أن العباد لا قدرة لهم على الفعل وإنما هم كريشة في مهب الريح وأن الخالق والفاعل معاً هو الله تعالى, ومن هنا نشأ خطأهم، وكذلك خطأ القدرية الذين زعموا أن العبد هو الخالق لفعله وقدرته وإرادته دون أي تدخل من الله تعالى, ومن هنا وصفوا بأنهم يثبتون خالقين مع الله تعالى مشابهة للمجوس، وأهل السنة توسطوا في ذلك كما عرفت سابقاً فأثبتوا مشيئة الله الكونية والشرعية وقدرة الله على كل شيء وأثبتوا أن العبد له قدرة ومشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى وقدرته وهو الفاعل للفعل حقيقة.
وموقف القدرية والجبرية الخاطئ يعود إلى عدم فهمهم لإرادة الله ومشيئته فهماً صحيحاً على الطريقة التي سار عليها السلف وهي الإيمان بأن لله مشيئة وإرادة لا يخرج أي شيء عنهما فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ثم يعود كذلك إلى عدم تفريقهم بين الإرادة والمحبة, ذلك أن الإرادة إما أن تكون كونية وهي الإرادة العامة لجميع الموجودات ودليلها قوله عزّ وجلّ: وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:٢٥٣] وإما أن تكون الإرادة شرعية وهي التي تتعلق بمحبة الله تعالى ورضاه عن الشيء كقوله تعالى: وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:٢٧] وأهل السنة يؤمنون أن الإرادة الكونية هي التي تعلقت بكل شيء حتى معصية العاصي فلا يلزم منها التفرقة بين ما يحبه الله وما لا يحبه. أما الإرادة الشرعية فهي التي تعلقت بمحبته ورضاه فهو وإن كان قدَّر وقوع الشر كوناً لكنه في الإرادة الشرعية لم يرضه ولم يحبه فهو لا يحب الظالمين ولا الفاسقين ولا العاصين. أما بالتأمل في مذهب المخالفين فنجد أن المعتزلة لا يفرقون بين الإرادتين الكونية والشرعية فيعتقدون أن كل ما أراده الله فقد أحبه.
وبذلك توصلوا إلى أن المعاصي لا يريدها الله تعالى ولا يحبها وبالتالي فلم يأمر بها ولا إرادة له في وقوعها وإلا لكان مريداً للمعاصي وبالتالي فلا يعاقِب عليها حسب زعمهم.
بينما ذهبت الجبرية إلى عدم التفريق بين الإرادتين أيضاً ولكنهم ناقضوا المعتزلة فقالوا كل ما يقع من أفعال خيِّرة كانت أم شريرة طاعة أم معصية كلها بإرادة الله تعالى ومحبته ورضاه وإلا لما وقعت فاحتجوا بالقدر على أفعالهم كالمشركين الذين احتجوا بمشيئة الله ورضاه على وقوعهم في الشرك وفي التحليل والتحريم. وبالتأمل في مذهب أهل السنة والمخالفين لهم يتضح تماماً وسطية أهل السنة بين غلو القدرية والجبرية وعدم وقوف القدرية والجبرية عند الحق الذي هدى الله إليه أهل السنة بلطفه وكرمه.