[المبحث السابع: المرجئة الأولى]
المرجئة الأولى علم على الطائفة التي فصلنا الحديث عن نشأتها "أي الاتجاه التوسطي أو التوقفي من الخوارج" ومن وافقها في نظرتها للصحابة خاصة.
وهذه التسمية صحيحة وثابتة، وما حفظه التاريخ عن هذه الطائفة - على قلته - يكفي لإعطاء تصور جيد عنها.
ولن نتبع منهج المؤرخين والباحثين في استقاء فكرتها من قصيدة ثابت قطنة ونحوها، بل نسلك مسلك المحدثين فنأخذ الحديث عنها من مصادره الصحيحة- إن وجدت - ثم نعرج على ما أثر في كتب التاريخ والفرق والأدب.
يقول الإمام الحجة محمد بن جرير الطبري في كتابه "تهذيب الآثار": "فإن قال لنا قائل: ومن هم المرجئة؟ وما صفتهم؟
قيل: إن المرجئة هم قوم موصوفون بإرجاء أمر مختلف فيما ذلك الأمر؟ فأما إرجاؤه فتأخيره، وهو من قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر فهو يرجئه إرجاء، وهو مرجئه، بهمز. وأرجاه فلان يرجيه أرجا، بغير الهمز فهو مرجيه، ومن قول الله تعالى ذكره: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ [التوبة:١٠٦].
يقرأ بالهمزة وغير الهمز بمعنى مؤخرون لأمر الله، وقوله مخبراً عن الملأ من قوم فرعون: قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ [الأعراف:١١١]. بهمز أرجه وبغير الهمز (٣).
فأما الأمر الذي بتأخيره سميت المرجئة مرجئة، فإن ابن عيينة كان يقول فيما حدثني عبدالله بن عمير الرازي قال: سمعت إبراهيم بن موسى - يعني الفراء الرازي - قال: سئل ابن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: الإرجاء على وجهين: قوم أرجوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل. فلا تجالسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولاتصلوا معهم ولا تصلوا عليهم ". (٤)
ثم قال الطبري - بعد نقل آثار عنهم-: "والصواب من القول في المعنى الذي من أجله سميت مرجئة أن يقال: إن الإرجاء معناه ما بيناه قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وتارك ولايتهما والبراءة منهما مرجئاً أمرهما فهو مرجئ، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان مرجئهما عنه فهو مرجئ.
غير أن الأغلب من استعمال أهل المعرفة بمذاهب المختلفين في الديانات في دهرنا هذا الاسم فيمن كان من قوله: الإيمان قول بلا عمل، وفيمن كان مذهبه أن الشرائع ليست من الإيمان، وأن الإيمان إنما هو التصديق بالقول دون العمل المصدق بوجوبه" (٥)
ففي كلام الإمام ابن عيينة وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما- أو أحدهما- وكذا لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما.
والغاية أن الإرجاء عندها ليس في مسألة الكفر والإيمان عامة، وإنما هو في الموقف من الصحابة المختلفين في الفتنة- رضي الله عنهم- خاصة. فهم مناقضون لما عليه عامة الخوارج من تكفيرهما، وما عليه عامة الشيعة من الغلو في علي والحط على عثمان أو تكفيره، وكذلك مخالفون لما عليه الجماعة في أمرهما.
ومن هنا كان طبيعياً أن تتعرض هذه الطائفة لنقد وعيب هذه الطوائف جميعاً، وكل طائفة تعيبها وتخالفها من الزاوية التي تراها مخالفة لها فيها، ومن هنا تشعب القول عن المرجئة الأولى واختلف.
فالجماعة يعدونهم من الخوارج - وهم كذلك لمن تأمله- كما قد سبق إيضاح ذلك وإثباته من واقع فرق الخوارج.
والشيعة تعدهم نواصب، ولهذا أدخلت أهل السنة عامة في مسماهم - كما سنرى- فهم يطلقون على كل من لم يغل في علي مرجئاً، إلا إذا كان يكفره فهو خارجي.