للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والخوارج يعدونهم مرجئة، لأنهم لم يجزموا بكفر علي وعثمان - في أول الأمر - وبالتالي لم يجزموا بتكفير مرتكب الكبيرة عامة بعد تطور النزاع على النحو الذي سبق.

وهذا ما يفسر السر في تضارب الأقوال عنهم، واختلافهم حتى أعيى الكثير من المصنفين والباحثين الجمع بينها، في حين أن من اعتمد على المصادر السلفية وحدها لا يجد أي اختلاف, وعلى هذا نسوق الشواهد:

فمن المرجئة الأولى "محارب بن دثار" قاضي الكوفة، المتوفى حوالي سنة ١١٦، يقول عنه ابن سعد: "كان من المرجئة الأولى، الذين كانوا يرجون علياً وعثمان، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر" (١)

وينقل الذهبي النص مع زيادة: "قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى، الذين يرجون علياً وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر". (٢)

وإذا كان هذا يعد عند الجماعة بدعة وجرحاً، فإن الشيعة تعده كفراً بالنسبة لعلي، وقد نسب صاحب (الأغاني)، وصاحب كتاب (الزينة) - وكلاهما رافضي- هذه الأبيات إلى محارب:

يعيب علي أقوام سفاها ... بأن أرجي أبا حسن عليا

وإرجائي أبا حسن صواب ... عن العمرين براً أو شقيا

فإن قدمت قوماً قال قوم ... أسأت وكنت كذاباً رديا

إذا أيقنت أن الله ربي ... وأرسل أحمداً حقاً نبيا

وأن الرسل قد بعثوا بحق ... وأن الله كان لهم وليا (٣)

فليس علي في الإرجاء بأس ... ولا لبس ولست أخاف شيّا

وعند الأخير زيادة بيتين:

وعثمان وماج الناس فيه ... فقالت فرقة قولاً بذيا

وقال الآخرون إمام صدق ... وقد قتلوه مظلوماً بريا (٤)

فرد عليه أحد شعراء الشيعة سائراً على منهجهم في الغلو والفحش:

يود محارب لو قد رآها (٥) ... وأبصرهم حواليها جثيا

وأن لسانه من ناب أفعى ... وما أرجى أبا حسن عليا

وأن عجوزه مصعت بكلب ... وكان دماء ساقيها جريا (٦)

متى ترجي أبا حسن عليا ... فقد أرجيت يا لكع نبيا (٧)

ولشاعرهم الحميري الملقب بالسيد، قصيدة في المعنى نفسه قال:

خليلي لا ترجيا واعلما ... بأن الهدى غير ما تزعمان

وأن عمى الشك بعد اليقين ... وضعف البصيرة بعد العيان

ضلال فلا تلججا فيهما ... فبئست لعمركما الخصلتان

أيرجى علي إمام الهدى ... وعثمان ما اعتدل المرجيان (١)

ويرجى ابن حرب وأشياعه ... وهوج الخوارج بالنهروان (٢)

ويرجى الألى نصروا نعثلاً ... بأعلى الخريبة والسامران (٣)

يكون أمامهم في المعاد ... خبيث الهوى مؤمن الشيصبان (٤)

وهكذا تعرض محارب - ومن كان معه- لهجوم الشيعة في كلا جانبي رأيه وهما: إرجاء علي، إذ كيف يرجى وهو عندهم نبي، كما صرح الأول، أو إمام الهدى الوحيد!!

وإرجاء عثمان، إذ كيف يرجى وهو إمام ضلالة- وكذا معاوية- فالواجب تكفيرهما!!

وعن الشك الذي يظهر في أبيات محارب، وخوفه من لوم الطوائف المعارضة نقول:

إنه لم يسلم من اللوم، بل عرض الحميري ذلك واصفاً له بالضلال، وإن عمى الشك بعد اليقين لضلال حقاً، لكن ليس على ما يرى الحميري.

هذا ولا يصح أن يكون إرجاء محارب هو تأخيره علي إلى الدرجة الرابعة في ترتيب خلافة الراشدين، كما ظن ذلك بعضهم، لأن هذا هو مذهب الجماعة وإجماع الأمة، وإنما إرجاؤه ما سبق، أما مصادر الشيعة فهي تعتبره كذلك، لكن لا عبرة بقولها، فهو فرع عن عقيدتها ودينها.

هذا وقد ذكر صاحب (الأغاني) أيضاً أن أحد الشيعة أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشماتة به، فقال السيد الحميري قصيدة في مدح الشيعة، وهذا مما يدل على تنافس وعداء (٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>