للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعل ما يؤيد معرفة سفيان بن عيينة لهذا الطائفة، أن أحد شيوخه عاصم بن كليب الجرمي هو تلميذ لمحارب بن دثار، وقد كان على الإرجاء نفسه، كما وصفه بذلك شريك بن عبدالله، ومما يدل عليه قوله لأحدهم: "إنك خشبي"، والخشبية هم الرافضة أو طائفة منهم، فكأنه يدافع عن نفسه بأنه موقفه خير من الغلو في علي (٦).

ونجد إماماً فقيهاً آخر هو "ابراهيم النخعي"، وقد كان معاصراً لمحارب وأعدائه يتكلم عن هذه الطائفة.

فقد ذكر ابن سعد بسنده "أن رجلاً كان يأتي إبراهيم النخعي فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان؟ فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك، فقال: ما أنا بسبئي ولا مرجئي" (٧).

أي لست من الشيعة- الذين أسس مذهبهم عبدالله بن سبأ كما هو معلوم- ولا من المرجئة الذين يقابلون غلو الشيعة بالإجحاف وعدم التولي له، يعني فهو من أتباع السلف أهل السنة، وأراد أن يعلم تلميذه أن يجتنب هاتين الفرقتين اللتين كانتا في الكوفة حينئذ.

وفي العصر نفسه نجد إماماً آخر مشهوراً هو "الشعبي" - الذي كان أول أمره خشبياً، ثم ترك ذلك وفضح كثيراً من أصول التشيع، لا سيما علاقته باليهود (٨) - ينصح تلميذاً له قائلاً: "أحب صالح المؤمنين وصالح بني هاشم ولا تكن شيعياً، وأرج ما لم تعلم ولا تكن مرجياً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، وأحبب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سندياً" (٩).

فهو يحذره من الطوائف الأربع التي كانت معاصرة حينئذ: وهي الشيعة والمرجئة والقدرية والشعوبية، ويبين له أن الإنسان يكل علم ما لم يعلم إلى الله، لكن أمر عثمان وعلي رضي الله عنهما هو من المعلوم الثابت، وهو الشهادة لهما بالإيمان والجنة، وموالاتهما وعدم البراءة منهما، بخلاف ما تقوله المرجئة فيهما، كما سيأتي في أبيات شاعرهم ثابت قطنة.

وممن نسب إليه الإرجاء على هذا المعنى من رجال الحديث: "خالد بن سلمة الفأفاء"، وهو يروي عن الشعبي ويروي عن سفيان بن عيينة، قيل عنه: "كان مرجئاً يبغض علياً"، وعبارة الذهبي: "كان مرجئاً ينال من علي رضي الله عنه". (١)

ولا شك أن عدم تولي علي هو بغض له.

ولنأت الآن إلى قصيدة ثابت قطنة- شاعر المرجئة المشهور- التي وصفت بأنها الأثر الإرجائي الباقي، الذي يصور عقيدة هذه المرجئة وأفكارها (٢)، وهي:

يا هند إني أظن العيش قد نفدا ... ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا

إني رهينة يوم لست سابقه ... إلا يكن يومنا هذا فقد أفِدا

بايعت ربي بيعاً إن وفيت به ... جاورت قتلى كراماً جاوروا أحدا

يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا ... أن نعبد الله لا نشرك (٣) به أحدا

نرجي الأمور إذا كانت مشبهةً ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا

المسلمون على الإسلام كلهم ... والكافرون استووا (٤) في دينهم قددا

ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً ... م (٥) الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا

لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا ... سفك الدماء طريقاً واحداً جددا

من يتق الله في الدنيا فإن له ... أجر الحساب إذا وفي الحساب غدا

وما قضى الله من أمر فليس له ... رد وما يقضِ من أمر يكن رشدا

كل الخوارج مخطٍ في مقالته ... ولو تعبد فيما قال واجتهدا

أما علي وعثمان فإنهما ... عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا

وكان بينهما شغب وقد شهدا ... شق العصا وبعين الله ما شهدا

يجزي علي وعثمان بسعيهما ... ولست أدري بحقٍ أيّةً (٦) وردا

الله يعلم ما يحضران به ... وكل عبد سيلقى الله منفردا (٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>