للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثامن: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم عن علم الكلام]

لاشك أن هذا متولد عن الوجه السابق الذي هو التناقض، لأن وجود التناقض في المذهب وفي طرق الاستدلال له يؤدي إلى عدم الثقة فيه فإذا انضاف إلى ذلك تعظيم شيوخ المذهب وأنهم لا يمكن أن يقولوا إلا ما هو حق موافق للعقل؛ فإن الأمر يتطور إلى الشك والحيرة، والرجوع لمن هدى الله منهم.

وكل ذلك لأجل أنهم خاضوا في علم الكلام والفلسفة، وتركوا الاعتماد على الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ولذلك صار لهم سمات خاصة بهم منها:"أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا، وأضعف الناس علما ويقينا ... " (١).ومنها: "أنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالا من قول إلى قول وجزما بالقول في موضع، وجزما بنقيضه وتكفير قاله في موضع آخر وهذا دليل عدم اليقين" (٢).ومنها: أن منتهى هؤلاء المعرضين عن الكتاب المعارضين له: "السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم العقلية إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية، ثم إن فضلاء هم يتفطنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب" (٣).

فالشك والحيرة – خاصة في المسائل الكبار – من سمات أهل الكلام، وفي مقدمتهم أعلام الأشاعرة، وقد استخدم شيخ الإسلام في منهجه وردوده عليهم هذه الطريقة التي تبين أن كل من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله فهذا مآله ومنتهاه، كما أنها تدل على حقيقة هؤلاء الأعلام المشهورين الذين يقتدى بهم فئام وفئام من الناس.

أما رجوع كثير منهم عما كان عليه وتعويله على الكتاب والسنة ففيه دلالة قوية على بطلان ما كانوا عليه، وهو حجة قاطعة على أن تعويل السلف على النصوص الواردة عن الله وعن رسوله –صلى الله عليه وسلم- لم يكن عن جهل بما عداها مما هو موجود في عهدهم من مذاهب اليونان وغيرهم، وإنما كان نابعا من اعتقاد جازم وإيمان عميق أن الهدى والرشاد والطمأنينة القلبية لن تكون إلا باتباع الوحي المنزل. وشيخ الإسلام وهو يذكر ما في رجوع أهل الكلام من الخير لهم ولغيرهم إلا أنه يثير مشكلة كتبهم التي انتشرت وتناقلها الناس فيقول: "وأما اعتراف المتكلمة من الإسلاميين فكثير، وقد جمع العلماء فيه شيئا، وذكروا رجوع أكابرهم عما كانوا يقولونه، وتوبتهم، إما عند الموت، وإما قبل الموت، وهذا من أسباب الرحمة إن شاء الله في هذه الأمة، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، وهذا أصح القولين في قبول توبة الداعي، لكن بقاء كتبهم وآثارهم محنة عظيمة في الأمة، وفتنة عظيمة لمن نظر فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (٤).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٤/ ٢٧) – وقد شرح شيخ الإسلام ذلك وضرب له عدة أمثلة.
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٤/ ٥٠).
(٣) ((درء التعارض)) (٥/ ٢٥٦).
(٤) ((الاستقامة)) (١/ ٧٩ - ٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>