والمعتزلة قبلهم ظنوا أن مجرد كون الفعل خلافاً للعادة هو الآية على صدق الرسول فلا يجوز ظهور خارق إلا لنبي، والتزموا طرداً لهذا إنكار أن يكون للسحر تأثير خارج عن العادة مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيء، وأنكروا الكهانة وأن تكون الجن تخبر ببعض المغيبات وأنكروا كرامات الأولياء، فأتى هؤلاء فأثبتوا ما أثبته الفقهاء وأهل الحديث من السحر والكهانة والكرامات.
لكن قيل لهم فميزوا بين هذا وبين المعجزات؟ فقالوا: لا فرق في نفس الجنس، وليس في جنس مقدورات الرب ما يختص بالأنبياء، لكن جنس خرق العادة واحد، فهذا إذا اقترن بدعوى النبوة وسلم عن المعارضة عند تحدي الرسول بالمثل فهو دليل، فهي عندهم لم تدل لكونهم في نفسها وجنسها دليلاً، بل إذا استدل بها المدعي للنبوة كانت دليلاً وإن لم تكن دليلاً، ومن شرط الدليل سلامته عن المعارضة، وهي عندهم غاية الفرق، فإذا قال المدعي للنبوة: ائتوا بمثل هذه الآية فعجزوا كان هذا هو المعجز المختص بالنبي وإلا فيجوز عندهم أن تكون معجزات الرسول من جنس ما للسحرة والكهان من الخوارق إذا استدل بها الرسول.
فالحجة عنده مجموع الدعوى والخارق لا الخارق وحده، والاعتبار بالسلامة عن المعارض بل قد لا يشترطون أن يكون خارقاً للعادة، لكن يشترطون أن لا يعارض وعجز الناس عن المعارضة مع أنه معتاد لا خارق للعادة، فالاعتبار عندهم بشيئين باقترانه بالدعوى وتحديه لمن دعاهم أن يأتوا بمثله فلا يقدرون.
قالوا وخوارق الأنبياء يظهر مثلها على يد الساحر والكاهن والصالح ولا يدل على النبوة لأنه لم يدعها قالوا ولو ادعى النبوة أحد من أهل هذه الخوارج مع كذبه لم يكن بد من أن الله يعجزه عنها فلا يخلقها على يده أو يقبض له من يعارضه فتبطل حجته، وإذا قيل لهم لم قلتم أن الله لابد أن يفعل هذا وهذا، وعندكم يجوز عليه كل شيء؟ ولا يجب عليه فعل شيء؟ ولا يجب منه فعل شيء؟ قالوا: لأنه لو لم يمنعه من ذلك أو يعارضه بآخر لكان قد أتى بمثل ما يأتي به النبي الصادق فتبطل دلالة آيات الأنبياء.
فإذا قيل لهم: وعلى أصلكم يجوز أنه يبطل دلالتها، وعندكم يجوز عليه فعل كل شيء؟ أجابوا بالوجهين المتقدمين: أما لزوم أنه ليس بقادر، أو أن الدلالة معلومة بالاضطرار، وقد عرف ضعفها، ثم هنا يلزمهم شيء آخر، وهو أنه لما قلتم أن المعجز الذي يدل به على صدق الأنبياء ما ذكرتموه من مجرد كونه خارقاً مع الدعوى، وعدم المعارضة فإن هذا يقال أنه باطل من وجوه.
أحدها أنه إذا كان من يأتي به الساحر والكاهن، لكان أولئك يعارضون وهذا لا يعارض، فالاعتبار إذن بعدم المعارضة، فقالوا كل من ادعى النبوة وقال: معجزتي أن لا يدعيها غيري فهو صادق، أو لا يقدر غيري على دعواها فهو صادق، أو أفعل أمراً معتاداً من الأكل والشرب واللباس، ومعجزتي أن لا يفعله غيري أو لا يقدر غيري على فعله، فهو صادق، فالتزموا هذا، وقالوا المنعم من المعتاد كإحداث غير المعتاد، وعلى هذا فلو قال الرسول: معجزتي أني أركب الحمار، أو الفرس، أو آكل هذا الطعام أو ألبس هذا الثوب أو أعذر إلى ذلك المكان وأمثال ذلك، وغيره لا يقدر على ذلك، كان هذا آية دعواه وهذا لا ضابط له، فإن ما يعجز عنه قوم دون قوم لا ينضبط، ولكن هذا يفسد قول من فسرها بخرق العادة، فإن العادات تختلف وقد ذكروا هذا وقالوا المعجزة عند كل قوم ما كان خرقاً لعادتهم، وقالوا يشترط أن تكون خارقة لعادة من دعاهم، وإن كان معتاداً لغيرهم، وقالوا إذا كان المدعي كذاباً فإن الله يقبض له من يعارضه من أهل تلك الصناعة، أو يمنعه من القدرة عليها وهذا وجه ثان يدل على فساد ما أصلوه والمعتزلة.