الوجه الثالث أن المعارضة بالمثل أن يأتي بحجة مثل حجة النبي وحجته عندهم مجموع دعوى النبوة والإثبات بالخارق، فيلزم على هذا أن تكون المعارضة بأن يدعي غيره النبوة، ويأتي بالخارق، وعلى هذا فليست معارضة الرسول بأن يأتوا بالقرآن، أو عشر سور أو سورة، مثل أن يدعي أحدهم النبوة، ويفعل ذلك، وهذا خلاف العقل والنقل، ولو قال الرسول لقريش لا يقدر أحد منكم أن يدعي النبوة ويأتي بمثل القرآن، وهذا هو الآية، وإلا فمجرد تلاوة القرآن ليس آية، بل قد يقرؤه المتعلم له، فلا تكون آية، لأنه لم يدع النبوة ولو ادعاها لكان الله ينسيه إياه، أو يقيض له من يعارضه كما ذكرتم، لكانت قريش وسائر العلماء يعلمون أن هذا باطل.
الرابع أنه إذا كان اعتمادكم على عدم المعارضة فقولوا ما قاله غيركم وهو أن آية سلامة ما يقوله من التناقض وأن كل من ادعى النبوة، وكان كاذباً فلابد أن يتناقض أو يقيض الله له من يقول مثل ما قال، وأما السلامة من التناقض من غير دعوى النبوة فليست دليلاً فهذا خير من قولكم فإنه قد علم أن كل ما جاء من عند غير الله فإنه لا بد أن يختلف ويتناقض وما جاء من عند الله لا يتناقض كما قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: ٨٢].
وأما دعوى الضرورة فمن ادعى الضرورة في شيء دون شيء مع تمثالهما، وعدم الفرق بينهما في نفس الأمر كانت دعواه مردودة بل كذباً، فإن وجود العلم الضروري بشيء دون شيء لابد أن يكون لفرق إما في المعلوم وإما في العالم، وإلا فإذا قدر تساوي المعلومات وتساوي حال العالم بها لم يعلم بالضرورة أحد المتماثلين دون الآخر.
الخامس: أنه لابد أن تكون الآية التي للنبي أمراً مختصاً بالأنبياء فإن الدليل مستلزم للمدلول عليه، فآية النبي هي دليل صدقه وعلامة صدقه وبرهان صدقه فلا توجد قط إلا مستلزمة لصدقه، وقد ادعوا أن آيات صدقهم تكون منفكة عن صدقهم تكون لساحر وكاهن ورجل صالح، ولمدعي الإلهية لكن لا تكون لمن يكذب في دعوى النبوة فجوزوا وجود الدليل مع عدم المدلول عليه إلا إذا ادعى المدلول عليه كاذب، واستدلوا على ذلك بأن الساعة تخرق عندها خوارق، ولا تدل على صدق أحد، ولو ادعى مدعي النبوة مع تلك الخوارق لدلت، قالوا فعلم إن جنس ما هو معجز يوجد بدون صدق النبي، لكن مع دعوى النبوة لا يوجد إلا مع الصدق والآية عندهم الدعوى والخارق والصدق هو المدلول عليه فلا يكون ذلك كذلك إلا مع هذا، وأما وجود الخارق مجرداً عن الدعوى فليس بدليل ولا فرق عندهم بين خارق وخارق، وخارق معتاد عند قوم دون قوم وليس لهم ضابط في العادات.
ولسائل أن يقول: جميع ما يفعله الله من الآيات في العالم فهو دليل على صدق الأنبياء ومستلزم له، وإن كانت الآيات معتادة لجنس الأنبياء أو لجنس الصالحين الذين يتبعون الأنبياء فهي مستلزمة لصدق مدعي النبوة فإنها إذا لم تكن إلا لنبي، أو من يتبعه لزم أن يكون من أحد القسمين، والكاذب في دعوى النوبة ليس واحداً منهما، فالتابع للأنبياء الصالح لا يكذب في دعوى النبوة قط ولا يدعيها إلا وهو صادق كالأنبياء المتبعين لشرع موسى، فإذا كان آية نبي إحياء الله الموتى لم يمتنع أن يحيي الله الموتى لنبي آخر، أو لمن يتبع الأنبياء كما قد أحيى الميت لغير واحد من الأنبياء ومن اتبعهم، وكان ذلك آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة من قبله إذا كان إحياء الموتى مختصاً بالأنبياء وأتباعهم.