للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك ما يفعله الله من الآيات والعقوبات بمكذبي الرسل كتغريق فرعون وإهلاك قوم عاد بالريح الصرصر العاتية، وإهلاك قوم صالح بالصيحة وأمثال ذلك، فإن هذا جنس لم يعذب به إلا من كذب الرسل، فهو دليل على صدق الرسل، وقد يميت الله بعض الناس بأنواع معتادة من البأس كالطواعين ونحوها، لكن هذا معتاد لغير مكذبي الرسل، أما ما عذب الله به مكذبي الرسل فمختص بهم، ولهذا كان من آيات الله كما قال: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: ٥٩]. وكذلك ما يحدثه من أشراط الساعة كظهور الدجال ويأجوج ومأجوج، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها بل والنفخ في الصور وغير ذلك هو من آيات الأنبياء فإنهم أخبروا به قبل أن يكون فكذبهم المكذبون، فإذا ظهر بعد مئين أو ألوف من السنين كما أخبروا به كان هذا من آيات صدقهم، ولم يكن هذا إلا لنبي أو لمن يخبر عن نبي والخبر عن النبي هو خبر النبي، ولهذا كان وجود ما أخبر به الرسول من المستقبلات من آيات نبوته إذا ظهر المخبر به كما كان أخبر فيما مضى عرف صدقه فيما أخبر به إذ كان هذا، وهذا لا يمكن أن يخبر به إلا نبي أو من أخذ عن نبي، وهو لم يأخذ عن أحد من الأنبياء شيئاً، فدل على نبوته، ولهذا يحتج الله له في القرآن بذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع.

وأخبار الكهان فيها كذب كثير، والكاهن قد عرف أنه يكذب كثيراً مع فجوره قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: ٢٢١ - ٢٢٣]. والكهانة جنس معروف، ومعروف أن الكاهن يتلقى عن الشيطان ولابد من كذبهم وفجورهم والنبي لا يكذب قط، ولا يكون إلا براً تقياً، فالفرق بينهما ثابت في نفس صفاتهما وأفعالهما وآياتهما، لا يقول عاقل إن مجرد ما يفعله الكاهن هو دليل إن اقترن بصادق، وليس بدليل إذا لم يقترن بصادق، وأنه متى ادعاه كاذب لم يظهر على يده، وهذا أيضاً باطل.

ويظهر بالوجه السادس وهو أنه قد ادعى جماعة من الكذابين النبوة وأتوا بخوارق من جنس خوارق الكهان والسحرة، ولم يعارضهم أحد في ذلك المكان والزمان وكانوا كذابين، فبطل قولهم أن الكذاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان فلابد أن يمنعه الله ذلك الخارق، أو يقيض له من يعارضه، وهذا كالأسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم واستولى على اليمن كان معه شيطان سحيق ومحيق، وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان، وما عارضه أحد عرف كذبه بوجوه متعددة، وظهر من كذبه وفجوره ما ذكره الله بقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ.

وكذلك مسيلمة الكذاب، وكذلك الحارث الدمشقي ومكحول الحلبي وبابا الرومي لعنة الله عليهم، وغير هؤلاء كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان.

السابع: أن آيات الأنبياء ليس من شرطها استدلال النبي بها ولا تحديه بالإتيان بمثلها بل هي دليل على نبوته، وإن خلت عن هذين القيدين وهذا كأخبار من تقدم بنبوة محمد، فإنه دليل على صدقه، وإن كان هو لم يعلم بما أخبروا به، ولا يستدل به، وأيضاً فما كان يظهره الله على يديه من الآيات مثل تكثير الطعام والشراب مرات كنبع الماء من بين أصابعه غير مرة، وتكثير الطعام القليل حتى كفى أضعاف أضعاف من كان محتاجاً إليه، وغير ذلك كله من دلائل النبوة، ولم يكن يظهرها للاستدلال بها ولا يتحدى بمثلها بل لحاجة المسلمين إليها، وكذلك إلقاء الخليل في النار، إنما كان بعد نبوته ودعائه لهم إلى التوحيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>