للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثامن: إن الدليل الدال على المدلول عليه ليس من شرط دلالته استدلال أحد به، بل ما كان النظر الصحيح فيه موصلاً إلى علم فهو دليل، وإن لم يستدل به أحد فالآيات أدلة وبراهين تدل سواء استدل به النبي أو لم يستدل وما لا يدل إذا لم يستدل به لا يدل إذا استدل به، ولا ينقلب ما ليس بدليل دليلاً إذا استدل به مدع لدلالته.

التاسع: أن يقال آيات الأنبياء لا تكون إلا خارقة للعادة، ولا تكون مما يقدر أحد على معارضتها فاختصاصها بالنبي وسلامتها عن المعارضة شرط فيها بل وفي كل دليل فإنه لا يكون دليلاً حتى يكون مختصاً بالمدلول عليه ولا يكون مختصاً إلا إذا سلم عن المعارضة، فلم يوجد مع عدم المدلول عليه مثله، وغلا إذا وجد هو أو مثله بدون المدلول لم يكن مختصاً فلا يكون دليلاً، لكن كما أنه لا يكفي مجرد كونه خارقاً لعادة أولئك القوم دون غيرهم فلا يكفي أيضاً عدم معارضة أولئك القوم، بل لابد أن يكون مما لم يعتده غير الأنبياء فيكون خارقاً لعادة غير الأنبياء فمتى عرف أنه يوجد لغير الأنبياء بطلت دلالته، ومتى عارض غير النبي النبي بمثل ما أتى به بطل الاختصاص.

وما ذكره المعتزلة وغيرهم كابن حزم من أن آيات الأنبياء مختصة بهم كلام صحيح، لكن كرامات الأولياء هي من دلائل النبوة، فإنها لا توجد إلا لمن اتبع النبي الصادق فصار وجودها كوجود ما أخبر به النبي من الغيب، وأما ما يأتي به السحرة والكهان من العجائب فتلك جنس معتاد لغير الأنبياء وأتباعهم بل الجنس معروف بالكذب والفجور فهو خارق بالنسبة إلى غير أهله، وكل صناعة فهي خارقة عند غير أهلها، ولا تكون آية وآيات الأنبياء هي خارقة لغير الأنبياء وإن كانت معتادة للأنبياء.

العاشر: إن آيات الأنبياء خارجة عن مقدور من أرسل الأنبياء إليه وهم الجن والإنس، فلا تقدر الإنس والجن أن يأتوا بمثل معجز الأنبياء، كما قال تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: ٨٨]. وأما الملائكة فلا تضر قدرتهم على مثل ذلك فإن الملائكة إنما تنزل على الأنبياء لا تنزل على السحرة، والكهان، كما أن الشياطين لا تنزل على الأنبياء والملائكة لا تكذب على الله، فإذا كانت الآيات من أفعال الملائكة مثل إخبارهم للنبي عن الله بالغيب، ومثل نصرهم له على عدوه وإهلاكهم له نصراً وهلاكاً خارجين عن العادة كما فعلته الملائكة يوم بدر وغيره، وكما فعلت بقوم لوط، وكما فعلت بمريم والمسيح ونحو ذلك وكإتيانهم سليمان بعرش بلقيس، فقد روي أن الملائكة جاءته به وهي أقدر من الجن لم يكن هذا خارجاً عما اعتاده الأنبياء، بل هذا ليس لغير الأنبياء فلا يقول أن غير الأنبياء اعتادوه فنقضت عادتهم، بل هذا لم يعتده إلا الأنبياء وهو مناقض لجنس عادات الآدميين بمعنى أنه لا يوجد فيما اعتاده بنو آدم في جميع الأصناف غير الأنبياء كما اعتادوا العجائب من السحر والكهانة والصناعات العجيبة، وما يستعينون عليه بالجن والإنس والقوى الطبيعية، مثل الطلاسم وغيرها، فكل هذا معتاد معروف لغير الأنبياء، وهؤلاء جعلوا الطلاسم من جنس المعجزات وقالوا: لو أتى بها نبي لكانت آية له، وإذا أتى بها من لا يدع النبوة جاز، وإن ادعاها كاذب سلبه الله علمها أو قيض له من يعارضه، وهذا قول قبيح، فإنه لو جعل شيء من معجزات الأنبياء وآياتهم من جنس ما يأتي به ساحر أو كاهن أو مطلسم أو مخدوم من الجن لاستوى الجنسان، ولم يكن فرق بين الأنبياء وبين هؤلاء، ولم يتميز بذلك النبي من غيره، وهذا مما عظم غلط هؤلاء فيه فلم يعرفوا خصائص النبي وخصائص آياته.

<<  <  ج: ص:  >  >>