للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما أن المتفلسفة أبعد منهم عن الإيمان فجعلوا للنبوة ثلاث خصائص: حصول العلم بلا تعلم، وقوة نفسه المؤثرة في هيولي العالم، وتخيل السمع والبصر. وهذه الثلاثة توجد لكثير من عوام الناس، ولم يفرقوا بين النبي والساحر إلا بأن هذا بر، وهذا فاجر، والقاضي أبو بكر وأمثاله يجعلون هذا الفرق سمعياً، والفرق الذي لابد منه عندهم الاستدلال بها والتحدي بالمثل، وكل من هؤلاء وهؤلاء أدخلوا مع الأنبياء من ليس بنبي ولم يعرفوا خصائص الأنبياء، ولا خصائص آياتهم فلزمهم جعل من ليس بنبي نبياً أو جعل النبي ليس بنبي إذ كان ما ذكروه في النبوة مشتركاً بين الأنبياء وغيرهم، فمن ظن أنه يكون لغير الأنبياء قدح في الأنبياء أن يكون هذا هو دليلهم بوجود مثل ما جاءوا به لغير النبي، ومن ظن أنه لا يكون إلا لنبي إذا رأى من فعله من متنبي كاذب وساحر وكاهن ظن أنه نبي، والإيمان بالنبوة أصل النجاة والسعادة، فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والإيمان والكفر، ولم يميز بين الخطأ والصواب.

ولما كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين مثل أبي حامد والرازي والآمدي وأمثالهم، هذا ونحوه مبلغ علمهم بالنبوة لم يكن لها في قلوبهم من العظمة ما يجب لها فلا يستدلون بها على الأمور العلمية الخبرية، وهي خاصة النبي وهو الإخبار عن الغيب والإنباء به، فلا يستدلون بكلام الله ورسوله على الإنباء بالغيب التي يقطع بها بل عمدتهم ما يدعونه من العقليات المتناقضة، ولهذا يقرون بالحيرة في آخر عمرهم كما قال الرازي:

نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

... وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال

لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فيما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: ١٠]. الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: ٥]. واقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]. وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: ١١] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

الوجه الحادي عشر: إن آيات الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم ليست مما تكون لغيرهم فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء، وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم وآياتهم التي فرق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء، ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم، وذلك مثل تغريق الله لجميع أهل الأرض إلا لنوح، ومن ركب معه في السفينة، فهذا لم يكن قط في العالم نظيره، وكذلك إهلاك قوم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد مع كثرتهم وقوتهم وعظم عمارتهم التي لم يخلق مثلها في البلاد، ثم أهلكوا بريح صرصر عاتية مسخرة سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، حتى صاروا كلهم كأنهم أعجاز نخل خاوية ونجا هود ومن اتبعه، وفهذا لم يوجد نظيره في العالم، وكذلك قوم صالح أصحاب مدائن ومساكن في السهل والجبل وبساتين أهلكوا كلهم بصيحة واحدة، وفهذا لم يوجد نظيره في العالم.

<<  <  ج: ص:  >  >>