وكذلك قوم لوط أصحاب مدائن متعددة رفعت إلى السماء، ثم قلبت بهم واتبعوا بحجارة من السماء تتبع شاذهم ونجا لوط وأهله، إلا امرأته أصابها ما أصابهم، فهذا لم يوجد نظيره في العالم، وكذلك قوم فرعون وموسى جمعان عظيمان ينفرق لهم البحر كل فرق كالطود العظيم، فيسلك هؤلاء ويخرجون سالمين فإذا سلك الآخرون انطبق عليهم الماء، فهذا لم يوجد نظيره في العالم، فهذه آيات تعرف العقلاء عموماً أنها ليست من جنس ما يموت به بنو آدم، وقد يحصل لبعض الناس طاعون ولبعضهم جدب ونحو ذلك، وهذا مما اعتاده الناس وهو من آيات الله من وجه آخر بل كل حادث من آيات الله تعالى.
ولكن هذه الآيات ليست من جنس ما اعتيد، وكذلك الكعبة فإنها بيت من حجارة بواد غير ذي زرع، ليس عندهم أحد يحفظها من عدو، ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها، فليس عندها رغبة ولا رهبة، ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة، فكل من يأتيها يأتيها خاضعاً ذليلاً. متواضعاً في غاية التواضع، وجعل فيها من الرغبة ما يأتيها الناس من أقطار الأرض محبة وشوقاً من غير باعث دنيوي، وهي على هذه الحال من ألوف من السنين، وهذا مما لا يعرف في العالم لبنية غيرها، والملوك يبنون القصور العظيمة فتبقى مدة، ثم تهدم لا يرغب أحد في بنائها ولا يرهبون من خرابها.
وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله على طول الزمان، وقد يستولي العدو عليه كما استولى عليه بيت المقدس، والكعبة لها خاصة ليست لغيرها، وهذا مما حير الفلاسفة ونحوهم، فإنهم يظنون أن المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك، وأن ما بني وبقي فقد بني بطالع سعيد فحاروا في طالع الكعبة إذ لم يجدوا في الأشكال الفلكية ما يوجب مثل هذه السعادة والفرح والعظمة والدوام والقهر والغلبة، وكذلك ما فعل الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل: ١ - ٥].
قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل، فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير إلى جهتها، وإذا وجهوه إلى غير جهتها توجه، ثم جاءهم من البحر طير أبابيل أي جماعات في تفرقة فوجاً بعد فوج رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم، فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم، فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم، والدليل يجب أن يكون مختصاً بالمدلول عليه، لا يوجد مع عدمه، لا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول، كما أن الحادث لابد له من حدث فيمتنع وجود حادث بلا محدث ولا يكون المحدث إلا قادراً فيمتنع وجود الأحداث من غير قادر، والفعل لا يكون إلا من عالم ونحو ذلك، فكذلك ما دل على صدق النبي يمتنع وجوده إلا مع كون النبي صادقاً، ولم يجعلوا آيات الأنبياء تدل دلالة عقلية مستلزمة للمدلول، ولا تدل بجنسها ونفسها بل قال بعضهم: قد تدل، وقد لا تدل وقال آخرون: تدل مع الدعوى ولا تدل مع عدم الدعوى، وهذا يبطل كونها دليلاً.