وآخرون أرادوا تحقيق ذلك فقالوا: تدل دلالة وضعية من جنس دلالة اللفظ على مراد المتكلم، تدل أن قصد الدلالة، ولا تدل بدون ذلك، فهي تدل مع الوضع دون غيره، فيقال لهم وما يدل على قصد المتكلم هو أيضاً دليل مطرد يمتنع وجوده بدون المدلول، ودلالته تعلم بالعقل فجميع الأدلة تعلم بالعقل دلالتها على المدلول، فإن ذلك اللفظ إنما يدل إذا علم، أن المتكلم أراد به هذا المعنى، وهذا قد يعلم ضرورة، وقد يعلم نظراً فقد يعلم قصد المتكلم بالضرورة كما يعلم أحوال الإنسان بالضرورة، فيفرق بين حمرة الخجل، وصفرة الوجل وبين حمرة المحموم، وصفرة المريض بالضرورة، وقد يعلم نظراً واستدلالاً كما يعلم أن عادته إذا قال كذا أن يريد كذا، وإنه لا ينقض عادته إلا إذا بين ما يدل على انتقاضها، فيعلم هذا كما يعلم سائر العاديات مثل طلوع الشمس كل يوم، والهلال كل شهر، وارتفاع الشمس في الصيف وانخفاضها في الشتاء، ومن هذا سنة الله في الفرق بين الأنبياء وأتباعهم، وبين مكذبهم قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ [آل عمران: ١٣٧] وقال تعالى: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: ٤٣].
فإن هذه العجائب والآيات التي للأنبياء تارة تعلم بمجرد الأخبار المتواترة، وإن لم نشاهد شيئاً من آثارها، وتارة نشاهد بالعيان آثارها الدالة على ما حدث كما قال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ [العنكبوت: ٣٨]. وقال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل: ٥٢]. وقال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: ١٣٧ - ١٣٨].
وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ [الحجر: ٧٥ - ٧٩]. أي لبطريق موضح متبين لمن مر به آثارهم، وهذه الأخبار كانت منتشرة متواترة في العالم، وقد علم الناس أنها آيات للأنبياء، وعقوبة لمكذبيهم، ولهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار، كما قال مؤمن آل فرعون: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر: ٣٠ - ٣١].
وقال شعيب: وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩]. والقرآن آيته باقية على طول الزمان من حين جاء به الرسول تتلى آيات التحدي به.