ويتلى قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ [الطور: ٣٤]. فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ [هود: ١٣]. بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ [يونس: ٣٨]. ويتلى قوله: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: ٨٨]. فنفس أخبار الرسول بهذا في أول الأمر، وقطعه بذلك مع علمه بكثرة الخلق، دليل على أنه كان خارقاً يعجز الثقلين عن معارضته، وهذا لا يكون لغير الأنبياء، ثم مع طول الزمان قد سمعه الموافق والمخالف والعرب والعجم، وليس في الأمم من أظهر كتاباً يقرأه الناس وقال أنه مثله، وهذا يعرفه كل أحد وما من كلام تكلم به الناس، وإن كان في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنى إلا وقد قال الناس نظيره، وما يشبهه ويقاربه سواء كان شعراً أو خطابة أو كلاماً في العلوم والحكمة والاستدلال والوعظ والرسائل وغير ذلك، وما وجد من ذلك شيء إلا ووجد ما يشبهه ويقاربه.
والقرآن مما يعلم الناس عربهم وعجمهم أنه لم يوجد له نظير مع حرص العرب وغير العرب على معارضته، فلفظه آية ونظمه آية، وأخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية، وإذا ترجم بغير العربية كانت معانيه آية، كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم.
وإذا قيل أن التوراة والإنجيل والزبور لم يوجد لها نظير أيضاً لم يضرنا ذلك، فإنا قلنا إن آيات الأنبياء لا تكون لغيرهم وإن كانت لجنس الأنبياء كالأخبار بغيب الله فهذه آية يشتركون فيها، وكذلك إحياء الموتى قد كان آيه فغير واحد من الأنبياء غير المسيح كما كان ذلك لموسى وغيره.
وليس المقصود هنا ذكر تفضيل الأنبياء على بعض، الأنبياء على بعض، بل المقصود أن جنس الأنبياء متميزون عن غيرهم بالآيات والدلائل الدالة على صدقهم التي يعلم العقلاء إنها لم توجد لغيرهم، فيعلمون أنها ليست لغيرهم لا عادة ولا خرق عادة، بل إذا عبر عنها بأنها خرق عادة، وبأنها من العجائب فالأمر العجيب هو الخارج عن نظائره، وخارق العادة ما خرج عن الأمر المعتاد. فالمراد بذلك أنها خارجة عن الأمر المعتاد لغير الأنبياء، وأنها من العجائب الخارجة عن النظائر فلا يوجد نظيرها لغير الأنبياء، وإذا وجد نظيرها سواء كان أعظم منها أو دونها لنبي، فذلك توكيد لها أنها من خصائص الأنبياء، فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً، فآية كل نبي آية لجميع الأنبياء، كما أن آيات أتباعهم آيات لهم أيضا، وهذا أيضاً من آيات الأنبياء وهو تصديق بعضهم لبعض، فلا يوجد من أصحاب الخوارق العجيبة التي تكون لغير الأنبياء كالسحرة والكهنة وأهل الطبائع والصناعات إلا من يخالف بعضهم بعضاً فيما يدعو إليه ويأمر به، ويعادي بعضهم بعضاً، وكذلك أتباعهم إذا كانوا من أهل الاستقامة، فما أتى به الأول من الآيات فهو دليل على نبوته ونبوة من يبشر به، وما أتى به الثاني فهو دليل على نبوته ونبوة من يصدقه ممن تقدم، فما أتى به موسى والمسيح وغيرهما من الآيات فهي آيات لنبوة محمد لأخبارهم بنبوته، فكان هذا الخبر مما دلت آياتهم على صدقه.