للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما أتى به محمد من الآيات فهو دليل على إثبات جنس الأنبياء مطلقاً، وعلى نبوة كل من سمي في القرآن خصوصاً إذا كان هذا مما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله، ودلت آياته على صدقه فيما يخبر به عن الله، وحينئذ فإذا قدر أن التوراة أو الإنجيل أو الزبور معجز لما فيه من العلوم والأخبار عن الغيوب، والأمر والنهي، ونحو ذلك لم ينازع في ذلك بل هذا دليل على نبوتهم صلوات الله عليهم، وعلى نبوة من أخبروا بنبوته، ومن قال إنها ليست بمعجزة، فإن أراد ليست معجزة من جهة اللفظ والنظم كالقرآن فهذا ممكن، وهذا يرجع إلى أهل اللغة العبرانية.

وأما كون التوراة معجزة من حيث المعان لما فيها من الأخبار عن الغيوب أو الأمر والنهي، فهذا لا ريب فيه، ومما يدل على أن كتب الأنبياء معجزة أن فيها الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بمدة طويلة، وهذا لا يمكن عمله بدون إعلام الله لهم، وهذا بخلاف من أخبر بنبوته من الكهان والهواتف، فإن هذا إنما كان عند قرب مبعثه لما ظهرت دلائل ذلك واسترقته الجن من الملائكة فتحدثت به، وسمعته الجن من أتباع الأنبياء فالنبي الثاني إذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبي الأول، وقد وصل إليه من جهته لم يكن آية له، فإن العلماء يشاركونه في هذا.

وأما إذا أخبر بقدر زائد لم يوجد في خبر الأول أو كان ممن لم يصل إليه خبر نبي غيره كان ذلك آية له كما يوجد في نبوة أشعيا وداود وغيرهما من صفات النبي ما لا يوجد مثله في توراة موسى، فهذه الكتب معجزة لما فيها من أخبار الغيب الذي لا يعلمه إلا نبي، وكذلك فيها من الأمر والنهي والوعد والوعيد ما لا يأتي به نبي، أو تابع نبي، وما أتى أتباع الأنبياء من جهة كونهم أتباعاً لهم مثل أمرهم بما أمروا به ونهيهم عما نهوا عنه، ووعدهم بما وعدوا به ووعيدهم بما يوعدون به، فإنه من خصائص الأنبياء والكذب المدعي للنبوة لا يأمر بجميع ما أمرت به الأنبياء، ونهى عن كل ما نهوا عنه، فإن ذلك يفسد مقصوده وهو كاذب فاجر شيطان من أعظم شياطين الإنس، والذي يعينه على ذلك من أعظم شياطين الجن.

وهؤلاء لا يتصور أن يأمروا بما أمرت به الأنبياء، وينهوا عما نهوا عنه لأن ذلك يناقض مقصودهم، بل وإن أمروا بالبعض في ابتداء الأمر من يدعونه ويربطونه، فلابد أن يناقضوا فيأمروا بما نهت عنه الأنبياء. ولا يوجبوا ما أمرت به الأنبياء، كما جرى مثل ذلك لمن ادعى النبوة من الكذابين ولمن أظهر موافقة الأنبياء، وهو في الباطن من المنافقين كالملاحدة الباطنية الذين يظهرون الإسلام والتشيع ابتداء، ثم أنهم يستحلون الشرك والفواحش والظلم ويسقطون الصلاة والصيام وغير ذلك مما جاءت به الشريعة، فمن أظهر خلاف ما أبطن، وكان مطاعاً في الناس فلابد أن يظهر من باطنه ما يناقض ما أظهره. فكيف بمن ادعى النبوة وأظهر أنه صادق على الله وهو في الباطن كاذب على الله، بل من أظهر خلاف ما أبطن من آحاد الناس يظهر حاله لمن خبره في مدة، فإن الجسد مطيع للقلب، والقلب هو الملك المدبر له، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (١).

فإذا كان القلب كاذباً على الله فاجراً كان ذلك أعظم الفساد فلابد أن يظهر الفساد على الجوارح، وذلك الفساد يناقض حال الصادق على الله، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

آيات الأنبياء الدالة على صدقهم:


(١) رواه البخاري (٥٢) , ومسلم (١٥٩٩) , من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>