للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثالث: تعقيب على إطلاق الحكم بالتكفير]

والواقع أن الحكم بتكفير الخوارج على الإطلاق فيه غلو، وأن الحكم بالتسوية بينهم وبين غيرهم من فرق المسلمين فيه تساهل، يغالي من يكفرهم جميعا؛ لأنهم لم يعلنوا الكفر، بل هم كما هو المعروف عنهم أهل عبادة وتهجد وصوم. ثم إنهم لم يعاملوا من الإمام علي والصحابة معاملة الكفار أو المرتدين، وما انحرفوا عن الحق من آراء ومواقف وأحكام إنما كان بناء عن تأويل تأولوا عليه الآيات والأحاديث، ومع أنه تأويل فاسد إلا أنهم لم يتعمدوا به الكفر، ولم يسعوا به إلى هدم الإسلام، بل طلبوا الحق – كما قال الإمام علي – فأخطؤه اللهم إلا من أنكر منهم ما هو معلوم من الدين بالضرورة.

ومع ذلك فإنه يقصر أو يتساهل في الحكم عليهم من يرى أنهم كغيرهم من فرق المسلمين الأخرى؛ لأنهم سفاكون للدماء يستعرضون الناس استعراضا دون تمييز، بخلاف الفرق الأخرى التي لم يستحل أصحابها من دماء المسلمين وأموالهم ما استحله الخوارج.

وقد مر بنا ما قاله العلماء في حكمهم عليهم، وهو كما رأينا لم يكن حكما قاطعا من جانب واحد بل إنهم اختلفوا فيه اختلافا بينا متعارضا، وما ذاك إلا لخطورة أمر التكفير من جهة، وغموض أمرهم من جهة أخرى، حيث جمعوا بين المتناقضات في سلوكهم مع الله ومع خلقه.

وفيما يظهر لي أن لا يعمم الحكم على جميع الخوارج، بل يقال في حق كل فرقة بما تستحقه من الحكم، حسب قربها أو بعدها عن الدين، وحسب ما يظهر من اعتقاداتها وآرائها، أما الحكم عليهم جميعا بحكم واحد مدحا أو ذما، فإنه يكون حكما غير دقيق؛ لأن الخوارج كما مر بنا لم يكونوا على رأي واحد في الاعتقاد، بل منهم المعتدل ومنهم المغالي. يقول ابن حزم: "وأقرب فرق الخوارج إلى أهل السنة أصحاب عبدالله بن يزيد الإباضي الفزاري الكوفي، وأبعدهم الأزارقة" (١). أو يقال: إن من انطبقت عليه تلك الصفات التي وردت في الأحاديث بذمهم كان حكمه أنه مارق عن الدين، وفي حكم الكفار، وأما من لم تنطبق عليه تلك الصفات، وذلك باحتمال أن يكون الشخص دخل في مذهبهم بقصد حسن من إعلاء كلمة الله في الأرض، أو من إيقاف حكام الجور عند حدهم، أو يكون الشخص مخدوعا بهم، أو له أي تأويل كان، فإن هذا لا ينبغي التسرع في تكفيره، خصوصا وهو يدعي الالتزام بجميع شرائع الإسلام.

أما تكفيرهم بسبب خروجهم عن طاعة الحكام، سواء كان ذلك الخروج بحق أو بغير حق، فهذا لا يخلو منه زمان أو مكان، فإن كان الخروج بحق، كأن يغير الحاكم الحكم بما أنزل الله ويستبدل به قانونا من وضع البشر، أو كان من محض هواه؛ فهذا لا يقال في حق الخارج عليه أي لوم، وأما إن كان الخروج بغير حق بل كان لمجرد أغراض، وارتكب في ذلك الخروج ما يوجب تكفير صاحبه، فهذا الذي يقال فيه إنه عاص وخارج بغير حق، ويجب على الأمة حينئذ إرجاعه إلى الحق والوقوف في وجهه.

المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص٥٤٤


(١) ((الفصل)) (٢/ ١١٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>