[المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة]
اختلف العلماء في أول من أسس هذا المذهب - أي أفصح عنه وأعلنه ودعا إليه - وإلا فبذوره متقدمة فقيل هو:
١ - ذر بن عبد الله الهمدانى:
وهو تابعى متعبد، توفى قبل نهاية القرن الأول، روى حديثه الجماعة.
قال إسحاق ابن إبراهيم: " قلت لأبى عبد الله - يعنى الإمام احمد -: أول من تكلم في الإيمان من هو؟ قال: يقولون: أول من تكلم فيه ذر " (٣)؛ وهكذا نقل الذهبي في " الميزان " (٤) عن الإمام.
ويبدو أن ذرا قد عرضت عليه الشبهة، وكان شاكا فيها، ثم جزم بها وأصر عليها لما لاقت رواجا - وهكذا شأن أصحاب البدع -.
قال سلمة بن كهيل: " وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيه، ثم قال أنى أخاف أن يتخذ هذا دينا، فلما أتته الكتب في الآفاق، قال: فسمعته يقول: وهل أمر غير هذا " (٥).
ونقل عنه الأعمش أول مرة قوله: " لقد أشرعت رأيا خفت أن يتخذ دينا " (٦).
وعن الحسن بن عبيدالله قال: " سمعت إبراهيم - النخعى - يقول لذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذى جئت به؟
قال ذر: ما هو إلا ر أي رأيته! قال: ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذى بعث به نوح " (٧)!!
وقد تعرض ذر لنقد العلماء المعاصرين؛ فقد ذمه إبراهيم النخعى بما سبق، وكان يعيبه ولا يرد عليه إذا سلم (٨).
وكان سعيد بن جبير شديدا عليه , حتى أن ذرا أتاه يوما في حاجة فقال: " لا، حتى تخبرنى على أي دين أنت اليوم - أو رأي أنت اليوم -، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من ر أي أنت أكبر منه؟ " (١).
وشكاه ذر إلى أبي البختري الطائى؛ إنه لا يرد عليه إذا سلم، فقال سعيد: " إن هذا يحدث - أو يجدد - كل يوم دينا، والله لا كلمته أبدا " (٢).
هذا وقد نقل الحافظ أن ذرا شهد مع ابن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة ثمانين (٣).
٢ - وقيل: إن أول من أحدثه هو قيس الماصر:
نقل الحافظ ذلك عن الأوزاعي؛ قال: أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس الماصر (٤).
ولم أعثر له على ترجمة، إلا أن أبا حاتم الرافضى صاحب كتاب (الزينة) السابق ذكره، قال ضمن فرق المرجئة الذين هم عنده أهل السنة: " ومنهم الماضرية (٥)، نسبه إلى قيس بن عمرو الماضرى، ويقال لهم مرجئة أهل العراق، وهم أبو حنيفة ونظراؤه " (٦).
٣ - وقيل: إن أول من أحدثه حماد ابن أبي سليمان:
المتوفى سنة ١٢٠ هجري، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم. وذكر
ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (٧).
ولا شك أن حمادا كان مرجئا وأنه كان معاصرا لذر، فقد روى عبدالله بن أحمد أن إبراهيم النخعى - شيخ حماد - قال: لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي، بعد ما تكلم في الإرجاء - يعنى حمادا (٨) -.
ومع ذلك فقد ادعى حماد غير هذا، إلا أن يقال أنه كان مستترا خائفا، ثم أظهر وأعلن.
قال أبو هاشم: " أتيت حماد بن أبى سليمان، فقلت: ما هذا الرأي الذى أحدثت لم يكن على عهد إبراهيم النخعي؟ فقال: لو كان حيا لتابعني عليه - يعنى الإرجاء - " (٩).
وفي هذا ما يدل على أولية حماد، لكن النص الأتى يدل على أنه اتبع غيره، إلا أن يقال أنه دليل فقط لما قررناه من أن الجذور متقدمة، وهو ما ذكره الذهبي عن معمر، قال: " كنا نأتى أبا إسحاق - يعني السبيعى - فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة؟
قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا؟
قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل.
قال الذهبي: قلتُ: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء؛ وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان: إقرار باللسان ويقين في القلب.