للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لمعرفة مراد المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين؛ لابد أن نسوق شيئاً من أقوالهم في ذلك، فنقول: يقول القاضي عبدالجبار: "والأصل في ذلك أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه، هذا في أصل اللغة. وأما في اصطلاح المتكلمين، فهو العلم بأن لصاحب الكبيرة اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين ... " (١).ويشرح القاضي هذا التعريف، فيقول: "إن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، فلا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسم المؤمن، وإنما يسمى فاسقاً. وكذلك صاحب الكبيرة له حكم بين الحكمين، فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن؛ بل له منزلة بينهما" (٢).ويقول ابن المرتضي – وهو يسوق ما أجمعت عليه المعتزلة -: "وأما ما أجمعت عليه المعتزلة، فقد أجمعت ... على المنزلة بين المنزلتين، وهو أن الفاسق لا يسمى مؤمناً ولا كافراً ... " (٣).ويقول الإسفراييني: " ... ومما اتفقت عليه المعتزلة من فضائحهم قولهم: إن حال الفاسق الملي يكون في منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن، ولا كافر، وإن هو خرج من الدنيا قبل أن يتوب يكون مخلداً في النار، ولا يجوز لله تعالى أن يغفر له أو يرحمه، أي أن مرتكب الكبيرة بكونه يشبه المؤمن في عقده، ولا يشبهه في عمله. ويشبه الكافر في عمله، ولا يشبهه في عقده أصبح وسطاً بين الاثنين، وتبعاً لهذا يكون عذابه أقل من عذاب الكافر" (٤).

من هذه الأقوال: يظهر مقصود المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين؛ وهو أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً، ولا كافراً، لا في الاسم ولا في الحكم؛ بل في منزلة بين المنزلتين، فلا يسمى مؤمناً، ولا كافراً، وإنما يسمى فاسقاً.

وحكمه كذلك بين الحكمين، فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، وإنما له حكم بينهما. هذا في الدنيا. وأما في الآخرة؛ فإنه يخلد في النار، لكن يكون عذابه أخف من عذاب الكافر.

وقد حملهم على قولهم هذا: شبهات منها، ما يلي:

ثانياً: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة في القول بالمنزلة بين المنزلتين، مع المناقشة:

لقد تمسك المعتزلة في قولهم بالمنزلة بين المنزلتين بشبهات، منها ما يلي:

الشبهة الأولى:

يقول واصل بن عطاء: "وجدت أحكام الكفار المجمع عليها المنصوصة في القرآن كلها زائلة عن صاحب الكبيرة، فوجب زوال اسم الكفر عنه بزوال حكمه، لأن الحكم يتبع الاسم، كما أن الاسم يتبع الفعل، وأحكام الكفر المجموع عليها ... على ضربين ...

الأول: حكم أهل الكتاب: قال تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: ٢٩]. فهذا حكم الله في أهل الكتاب، وهو زائل عن صاحب الكبيرة.


(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص١٣٧).
(٢) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٦٩٧).
(٣) ((المنية والأمل)) لابن المرتضى (ص٦).
(٤) ((التبصير في الدين)) (ص٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>