والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه، كما آمن أو صلى صارفا ذلك لأحد من دون الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين، ومنهم أهل الكتاب والمشركين الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ من الأنبياء أو غيرهم، وعبدوهم زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى.
ومما يميز بينهما أن الصدق لا يختص بالاعتقاد، بل يكون في الأعمال أيضا، بخلاف الإخلاص فإنه عمل قلبي محض، لكن تظهر أثاره على الجوارح - كما سبق فيما أوضحنا في العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح، وهذا يشبه ما سبق من القول في اليقين والإحسان، والله أعلم.
وعلى قدر تحقيق العبد لشعب الإيمان وأعماله يكون حظه من الصدق - حتى يصل إلى درجة " الصديقين"، يقول الله تعالى:
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: ٧٧].
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: ١٥]
وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد: ١٩].
كما ان الإخلاص بالنسبة للأعمال - كالروح للجسد، فالفرق بين عمل بإخلاص وعمل لا إخلاص، فيه كالفرق بين البشر السوي والتمثال الشاخص.
وعلى قدر ما يحقق العبد في الإخلاص لربه يكون ترقية في (المخلصين)، الذين صرف الله عنهم غواية الشيطان واثني عليهم في كل أمة، وبين نجاتهم حين هلاك أممهم.
قال تعالى حكاية عن إبليس: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: ٨٣]، وقال في سورة الصافات تعقيبا على إهلاك الأمم عامة: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:٧٣ - ٧٤]، وعن قوم إلياس خاصة، قال فيها: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:١٢٧ - ١٢٨].
وكرر ذلك في مواضع من هذه السورة وغيرها، كقوله عن يوسف لما عصمه من الفاحشة: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: ٢٤].
ولهذا كثر الحديث عن الصدق والإخلاص في كتاب الله، وجاء الحديث عن الصدق في السور التي تعرضت للنفاق وأهله، كسورة براءة والأحزاب والمنافقون والقتال (محمد) والحجرات والحشر.
وجاء الحديث عن الإخلاص في السور التي تحدثت عن الشرك والمشركين، كسورة الأعراف والزمر وغافر والبينة والكافرون، بل في سورة الأنعام - وان لم يذكر فيها صريحا.
وارتباط عمل الجوارح بالصدق والإخلاص كارتباطه بالرضا والمحبة واليقين - أمر محسوس ظاهر، يدل علي ارتباط أجزاء الحقيقة الإيمانية الواحدة كما أسلفنا.
هذا ما يسر الله به واتسع له المجال من الحديث عن أعمال القلوب، ولقد تركت أعمالا أخرى قد لا تقل أهمية عن هذه، كالتوكل، والصبر، والتوبة، والإنابة، والخوف، والرجاء، على أن ما ذكرنا يتضمنها أو يدل عليها ويشير إليها، بل كثير مما نذكر مما يسميه بعضهم " مقامات " هو كالوسائل لهذه الغايات، والفروع لهذه الأصول، إذ كانت هذه المذكورة جميعها متعلقة بشطر إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:٥]، وأما التوكل والصبر ونحوها فمتعلقة بشطر وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:٥]، ومعلوم أن الاستعانة وسيلة للعبادة وفرع منها.
المصدر:ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - ٢/ ٥٥٣