للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد أن قويت شوكة ابن الأشعث، وبإزاء سيرته الحسنة في الناس، وما أفاضه عليهم من الأعطيات، وعلاقته الطيبة بالفقهاء، والقراء، فقد بايعوه على خلع الحجاج، ومن أبرزهم ذر بن عبدالله الهمذاني الذي سيصبح من أبرز شخصيات الإرجاء، وأول من تكلم فيه أبو البحتري، الذي قام يحث الناس على قتال الحجاج، فقال: "أيها الناس، قاتلوهم على دينكم، ودنياكم، فوالله، لئن ظهروا عليكم، ليفسدن عليكم دينكم، ودنياكم، وقال الإمام الشعبي: "يأهل الإسلام، قاتلوهم، ولا يأخذكم حرج من قتالهم؛ فوالله، ما أعلم قوماً على بسيط الأرض، أعمل بظلم منهم وقال سعيد بن جبير: "قاتلوهم، ولا تأثموا، ولا يأخذكم حرج من قتالهم، بنية، ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهمن على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة" (١).وقد استمرت هذه الفتنة ثلاث سنوات، وأهل العراق، وبلاد فارس، وجند الشام، بقيادة الحجاج، يصطرعون، فريق مع ابن الأشعث، وفريق مع الحجاج، وكانت الحرب جولات، مرة لابن الأشعث، ومرة للحجاج، حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث، وكانت هزيمة مرة، وعصيبة في الأمة، وفقهائها، وقرائها الذين أملوا الناس بالتخلص من الحجاج، وعسفه، وظلمه، وأصبحت وعود العلماء للناس بتطبيق أمثل للكتاب والسنة حلماً، وسراباً بعيد المنال، ولعل هذا الوصف، عن الطبري، لموقف القراء، يعبر عن الحرج البالغ الذي وقعوا فيه؛ بسبب مشاركتهم بهذه الفتنة؛ حيث قال: "فخرج الناس، فعسكروا، وجعلوا يبكون، وينادون: يا محمداه! يا محمداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون، فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم متقنعين، فيبكون لما يسمعون منهم، يرون" (٢).وروى خليفة بن خياط، عن مالك بن دينار، قال: "خرج مع ابن الأشعث خمس مئة من القراء، كلهم يرون القتال" (٣)، ومن مظاهر هذه الهزيمة التي جلبت النقاش في مسائل تخص الكفر والإيمان، ما رواه الطبري: "إن الحجاج عندما دخل الكوفة، وأقام مجلسا، وأجلس مصقلة بن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه، وكان خطيبا، فقال: اشتم كل امرئ بما فيه، ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره، ولؤم عهده، ومن علمت منه عيبا، فعبه بما فيه، وصغر إليه نفسه، وكان لا يبايعه أحد إلا قال له: "أتشهد أنك قد كفرت؟ "، فإذا قال: نعم، بايعه، وإلا، قتله، وجاءه رجل من خثعم، فقال له: أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل أنا، إن كنت عبدت الله ثمانين سنة، ثم أشهد على نفسي بالكفر، قال: إذا أقتلك، قال: وإن قتلتني، فوالله، ما بقي من عمري إلا ضمء حمار، وإني لأنتظر الموت صباح مساء؛ فقال: اضربوا عنقه، فضربت عنقه، فزعموا أنه لم يبق حوله قرشي، ولا شامي، ولا أحد من الحزبين، إلا رحمه، ورثي له من القتل" (٤).أمام هذه الأحداث الجسيمة، وما تبعها من ممارسات الحجاج الرهيبة، وإجباره الناس على الإقرار بالكفر؛ للنجاة من القتل، "فقد جيء له برجل، فقال له الحجاج: إني لأرى رجلاً، ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال الرجل: أخادعي عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد؛ فخلى سبيله" (٥)،


(١) الطبري، ((تاريخ الأمم))، (٣، /٦٣٥).
(٢) الطبري، ((تاريخ الأمم)) (٣، /٦٤٨)، وانظر رواية مختصرة لهذه الفتنة في الدينوري، ((الأخبار الطوال))، (ص٣١٦).
(٣) خليفة خياط، ((التاريخ))، (ص٢٨٧)، ت. د. أكرم العمري، ط٢، ١٤٠٥هـ، دار طيبة، الرياض.
(٤) الطبري، ((تاريخ الأمم)) (٣، /٦٣٩).
(٥) الطبري، (٣، /٦٣٩) ..

<<  <  ج: ص:  >  >>