للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: أن الله تعالى حين أخبر عن تكليمه لموسى قال: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: ١٩٤] فأكده بالمصدر تَكْلِيمًا وقد قال جماعة من أهل التحقيق في العربية: "إن التوكيد بالمصدر ينفي المجاز".والثالث: قال ابن قتيبة رحمه الله: "خرجوا بهذا التأويل من اللغة ومن المعقول، لأن معنى "تكلم الله" أتى بالكلام من عنده، و "ترحم الله" أتى بالرحمة من عنده، كما يقال: "تخشع فلان" أتى بالخشوع من نفسه، و "تشجع" أتى بالشجاعة من نفسه، و "تبتل" أتى بالتبتل من نفسه، و "تحلم" أتى بالحلم من نفسه، ولو كان المراد: أوجد كلاماً، لم يجز أن يقال: "تكلم" وكان الواجب أن يقال: "أكلم" كما يقال: "أقبح الرجل" أتى بالقباحة، و "أطاب" أتى بالطيب، و "أخس" أتى بالخساسة، وأن يقال: "أكلم الله موسى إكلاماً" كما يقال: "أقبر الله الرجل" أي جعل له قبراً، أو "أرعى الله الماشية" جعلها ترعى، في أشباه لهذا كثيرة لا تخفى على أهل اللغة" (١).

والرابع: أن تكليم الله تعالى لموسى كان خصيصة فضل بها على غيره ممن لم يؤت مثل ما أوتي من الرسل، وقد قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء [الشورى: ٥١] فإن كان التكليم لموسى حصل بواسطة الشجرة لم يكن له على من سواه ممن يوحى إليه بواسطة الرسول فضل، ولم تكن منزلة التكليم من وراء حجاب حاصلة لأحد من رسل الله، وهذا تكذيب للقرآن، وإبطال لواضح البرهان، فجازى الله تعالى الجهمية المعتزلة على ما أرادوا به إفساد دين المسلمين بما هم أهله.

والخامس: أن قوله مِنَ الشَّجَرَةِ لابتداء الغاية نحو ذلك: "رأيت الهلال من داري" و "سمعت كلام زيد من البيت" فليس الهلال في الدار، ولا البيت هو المتكلم.

ثانياً: إضافة الكلام إلى الله سبحانه وتعالى في مثل قوله: "حتى يسمع كلام الله":

قالوا: هي إضافة خلق وتشريف لا إضافة صفة، كـ "بيت الله" و "ناقة الله" و "رسول الله".

وهذا نوع آخر من تمويههم وتلبيسهم ليفروا من الحق وينفروا الخلق.

والرد عليهم في هذا التشويش يطول شرحه، ولكن أذكر ها هنا قاعدة ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة تغني اللبيب عن التفصيل. قال رحمه الله: "كل ما يضاف إلى الله إن كان عيناً قائمةً بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله" (٢).

ومثل لما كان عيناً قائمةً بنفسها بقوله تعالى: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس: ١٣] وقوله: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم: ١٧] قال: "وهو جبريل".

فهذا خلق له وملك له، ومثله: "رسول الله" و"عباد الله" و "قبلة الله" ونحو ذلك.

ومثل لما كان صفة قائمة بغيرها بـ "علم الله، كلام الله، قدرة الله، حياة الله، أمر الله".

فهذه إذا أضيفت إلى الله تعالى كانت صفات له. قال: "لكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به، فيسمى المعلوم علماً، والمقدور قدرة، والمأمور به أمراً، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقاً، كقوله: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: ١] وقوله: إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران: ٤٥] وقوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [النساء: ١٧١] " (٣).

قلت: وإنما يصار إلى هذا المعنى بالقرائن، أما بمجرد إضافة الصفة إلى الله فإنها حينئذ صفة له.

المصدر:العقيدة السلفية في كلام رب البرية لعبدالله يوسف الجديع – ص ٣١٧


(١) ((الاختلاف في اللفظ)) (ص ٢٣٣ - ٢٣٤) – ((عقائد السلف)).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٩/ ٢٩٠).
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٩/ ٢٩١).

<<  <  ج: ص:  >  >>