للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الأولى: فالجواب عليها من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن من لجأ إلى غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله أنه لم يعتقد فيه التأثير - وإلا فما الذي ألجأه إلى أن يستغيث به ويدعوه؟ وقد تقدمت أدلة وافية تفيد أن من أسباب الشرك: الغلو في الصالحين - وإساءة الظن برب العالمين، (١) فبمجموع الأمرين يقع الشرك فالذي دعا غير الله تعالى رائده في ذلك: اعتقاده في مدعوه التأثير وظنه أن الله لا يستجيب له لكثرة ذنوبه ومعاصيه. وخير من قول دحلان قول الشيخ محمد عبده: "فالإشراك اعتقاد أن لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة، وأن لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين، وهو اعتقاد من يعظم سوى الله مستعيناً به فيما لا يقدر العبد عليه كلاستنصار في الحرب بغير قوة الجيوش، والاستشفاء من الأمراض بغير الأدوية التي هدانا الله إليها، والاستعانة على السعادة الأخروية أو الدنيوية بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا، هذا هو الشرك الذي كان عليه الوثنيون ومن ماثلهم، فجاءت الشريعة الإسلامية بمحوه ورد الأمر فيما فوق القدرة البشرية والأسباب الكونية إلى الله وحده" (٢)، فهذا إثبات واضح للتلازم الذي ذكرناه. الوجه الثاني: إنه لو سلم - جدلاً - أن المستغيث بغير الله تعالى قصده أن يتخذ مدعوه واسطة بينه وبين الله دون أن يعتقد تأثيره - فهذا باطل أيضاً، إذ هذا هو قصد المشركين الأوائل الذين أقروا لله تعالى بالوحدانية في الربوبية واتخذوا وسطاء بينهم وبين الله تعالى (٣) كما قال الله عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: ٣]. وقال: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: ١٨].وقد تقدم قول الرازي في صور اتخاذ الشفعاء عند الله، وإنكاره ما رآه من أهل زمانه من تعظيم قبور الأكابر، وعده له نظير ما فعل عباد الأصنام، ويضاف إليه كذلك قول التفتازاني - فإنه بعدما ذكر التوحيد بدأ يعدد أصناف المشركين الذين يعتقدون وجود تأثير للكواكب ونحوها - فذكر منهم عباد الأصنام وأن عبادها لا يعتقدون فيها كونها مؤثرة مدبرة فقال: "وأما الأصنام فلا خفاء في أن العاقل لا يعتقد فيها شيئاً من ذلك - (قال) فلهم في ذلك تأويلات باطلة" فذكر خمسة تأويلات، فقال عن التأويل الخامس: "الخامس: أنه لما مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالاً على صورته وعظموه تشفعاً إلى الله تعالى وتوسلاً" (٤). وأما المسألة الثانية من الشبهة وهي: أن الإنسان يعتبر مشركاً كذلك إذا اعتقد الألوهية واستحقاق العبادة لغير الله. فالجواب: قد تقدم معنى الألوهية، ومعنى العبادة - وبه يظهر أن من صرف شيئاً منها لغير الله يعتبر مشركاً. ومن كلامهم يظهر مدى تقصيرهم في معرفة العبادة - فهم لا يعدون الدعاء من العبادة، وهذا قد وقع فيه المتأخرون، وإلا فقد تقدم النقل عن بعض كبار الأشاعرة في أن الدعاء هو أعظم أنواع العبادة. وعليه فإنه يقال: إن من دعا غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله يكون قد اعتقد الألوهية لغير الله تعالى فعلاً وإن لم يسمها بذلك لفظاً.

المصدر:منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف - ١/ ١٨٥


(١) انظر مثلاً قول محمد النور في كتابه ((طبقات ود ضيف الله)) (ص: ٢٧٣) فإنه قال عن أحد المشايخ: (ولقد أعطاه الله الدرجة الكونية وهو لغة: كن فيكون!) اهـ. فهذا يدل على أن أولئك المريدين لجأوا إلى أولئك المشايخ! بالدعاء والخشية وغير ذلك، لاعتقادهم فيهم أوصاف الربوبية، التي عبر عنها هؤلاء باعتقاد التأثير.
(٢) ((رسالة التوحيد)) للشيخ محمد عبده (ص: ٧٥).
(٣) ((انظر الصواعق المرسلة الشهابية لابن سحمان)) (ص: ١٢٨، ١٣٥) وانظر ((كشف الشبهات في التوحيد)) للشيخ محمد بن عبدالوهاب (ص: ١٥). و ((القول الفصل النفيس في الرد على المفتري داود بن جرجيس)) تأليف الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ص: ٣٨ - ٣٩).
(٤) ((شرح المقاصد)) (٤/ ٤١ - ٤٢). انظر ((التنبيه المتقدم)) (ص: ١١).

<<  <  ج: ص:  >  >>