للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنه قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: ١] وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: ١٨٩].

وربما تعدى على مفعول واحد ولم يكن بمعنى "خلق" كقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء [الأنعام: ١٠٠] وقوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل: ٥].

أما إذا تعدى على مفعولين فلا يكون بمعنى "خلق" بأي حال.

ومن ذلك قوله تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [البقرة: ٦٦] وقوله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء: ٧٣].

وكذلك منه قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣] فالمفعول الأول الضمير والثاني قُرْآنًا والمعنى: قلناه قرآنا عربياً، أو بيناه.

فبطل تمويه المعتزلة بفضل الله. وقد أجاب الإمام أحمد رحمه الله المعتزلي حين احتج عليه بهذه الآية بقوله: "فقد قال الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل: ٥] أفخلقهم؟ " (١).

الشبهة الثالثة:

القرآن محدث، كما قال الله: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: ٢]. كما قال: وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء: ٥] والمحدث: المخلوق.

جوابها: قوله "محدث" في الأصل من "الحدوث" وهو كون الشيء بعد أن لم يكن، والقرآن العظيم حين كان ينزل، كان كلما نزل منه شيء كان جديداً على الناس، لم يكونوا عملوه من قبل، فهو محدث بالنسبة إلى الناس، إلا تراه قال: وَمَا يَأْتِيهِم؟ فهو محدث إليهم حين يأتيهم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحدث لنبيه ما شاء، وإن مما أحدث لنبيه: أن لا تكلموا في الصلاة)) (٢) وأمر الله: قوله وكلامه، وهو غير مخلوق، محدث بالنسبة إلى العباد، أي: جديد عليهم، فليس المحدث هنا هو المخلوق.

وهذا الجواب أحسن ما قيل في ذلك. قال أبو عبيد القاسم إمام العربية: " مُّحْدَثٍ حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما علم الله ما لم يكن يعلم" (٣).وقال ابن قتيبة: "المحدث ليس هو في موضوع بمعنى: مخلوق، فإن أنكروا ذلك فليقولوا في قول الله: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: ١] أنه يخلق، وكذلك: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: ١١٣] أي: يحدث لهم القرآن ذكراً، والمعنى: يجدد عندهم ما لم يكن، وكذلك قوله: وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء: ٥] أي: ذكر حدث عندهم لم يكن قبل ذلك" (٤).

وربما أجاب بعض الأئمة بغير هذا، لكن هذا أصح وأظهر.

الشبهة الرابعة:

جعل الله أمره مقدوراً فقال: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب: ٣٨] وأمر الله: كلامه، والمقدور: المخلوق.

جوابها:

إن لفظ: "الأمر" إذا أضيف إلى الله تعالى يأتي على تفسيرين:

الأول: يراد به المصدر، كقوله تعالى: لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: ٥٤] وهو غير مخلوق – كما ذكرناه في الباب الأول في الاحتجاج لهذه المسألة -.

وهذا يجمع على: "أوامر".


(١) رواه صالح في ((المحنة)) (ص ٥٣) عن أبيه به.
(٢) رواه أحمد (١/ ٤٦٣) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (٦/ ١٩٣): إسناده صحيح.
(٣) ((خلق أفعال العباد)) (ص ٣٧).
(٤) ((الاختلاف في اللفظ)) (ص ٢٣٤ - ٢٣٥) – ((عقائد السلف)).

<<  <  ج: ص:  >  >>