للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذكر أيضا أنه لم يظهر له دخول الاستسلام والانقياد في القول النفسي وقال: " والظاهر من قول أبي الحسن: (التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة) أنه التركيب الخبري ولا يصح بدونها أي لا يكون تصديق بدون الإذعان والقبول لتلك النسبة. والحاصل أن الشيخ أبا الحسن فسر مرة بما هو من مقول الكيف ومرة بما هو من مقول الفعل. والثاني مرتضى القاضي وصاحب (الغنية) " (١).

هذا غيض من فيض من كلامهم في حقيقة الإيمان وتفسيرها تفسيرا موافقا لقولهم في الكلام النفسي عامة، ومتمشيا مع المقولات الفلسفية مع الإعراض عن النصوص الواردة فيه، فكان طبيعيا ألا يدخلوا العمل فيه بمرة، وهذا هو المطلوب.

وقد سبق قريبا التنبيه إلى معنى الإذعان والانقياد عندهم، فإن بعض الناس قد يفهم أنهم يريدون به العمل والامتثال , ولكن كلامهم واضح في عدم قصد ذلك وأنهم إنما يريدون به الإيمان بوجوب الفرائض لا فعلها. وليس هذا فهمنا فحسب، بل هو ما شرحه به شارح كلام ابن الهمام نفسه حين قال: " الإيمان هو التصديق بالقلب فقط: أي قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر ولا استدلال؛ كالوحدانية والنبوة والجزاء ووجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها ". (٢).

بل قال المؤلف نفسه: " متعلق الإيمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب التصديق بكل ما جاء به من اعتقادي وعملي؛ أعني اعتقاد أحقية العملي ". قال شارحه: " أعني بالتصديق الثاني اعتقاد أنه حق وصدق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم " (٣).!!

وكذلك يقول شارح الجوهرة: " والإسلام أشرحن حقيقته (بالعمل) الصالح؛ أعني امتثال المأمورات واجتناب المنهيات؛ والمراد الإذعان لتلك الأحكام وعدم ردها سواء عملها أو لم يعملها "!! وقال " والمراد إذعان المذكورات (الصلاة والصيام ... ) وتسليمها وعدم مقابلتها بالرد والاستكبار " (٤) فالإذعان عندهم هو جزء من الفعل النفسي أو الكيف النفسي أو متعلق من متعلقاتها لا غير (٥)، فهو ضد التكذيب، أو ضد جحد الوجوب على أحسن الأحوال، ومن الواضح أن إذعانا كهذا الذي وصفوه ليس هو الإذعان المطلوب شرعا، وإن كان لا بد منه في الإذعان الشرعي الذي هو الامتثال بفعل المأمور وترك المحظور على ما جاء في النصوص الكثيرة، ومنها ما في حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، وقال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم)) (٦) وعلى هذا قال الإمام أحمد رحمه الله:: من قال إنه يكون مؤمنا أو مسلما مع عدم العمل فقد عاند الحديث!! وسيأتي في الباب الخامس بإذن الله كشف هذه الشبهات كاملا، وإنما المراد هنا تبيين الأثر الكلامي في هذه العقيدة المخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف (٧).

المصدر:ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - ٢/ ٤٢٣


(١) ((المسايرة)) (ص١٩٧ –١٩٨) ويلاحظ أنه على كلا التفسيرين لم يخرجه عما في القلب، ومن هنا تظهر موافقته لقول جهم في الأصل، والمأخذ كما نص على ذلك شيخ الإسلام في ((الإيمان)) (ص١١٣) على أن النقل عن الأشعري مضطرب في هذه المسألة خاصة، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام في ((الإيمان الأوسط)) لكن لا خلاف في أن قول أكثر الصحابة المتقدمين وكل المتأخرين هو ما نقلناه أعلاه. وانظر رسالة الزميل هادي طالبي: أبو الحسن الأشعري. وعلى أية حال ليس في اشتراطهم الإذعان بالمعنى الذي قرروه ما يبعدهم كثيرا عن قول جهم، بل غايته أنهم يثبتون أن جهما لا يشترط شيئا على مجرد المعرفة الواقعة بلا اختيار ولا كسب من العبد، وهم يشترطونها – على قول -، ولم يظهر حتى الآن ما يدل على أن جهما كان يعتقد إيمان إبليس وأهل الكتاب، بل الظاهر أن هذا لازم مذهبه، وعليه فلا فرق بينه وبينهم إذ هذا لازم لهم أيضا أي مع وقوع المعرفة الاختيارية الكسبية، والله اعلم.
(٢) ((المسايرة)) (ص١٧٤)
(٣) (ص ٢٠٤ – ٢٠٥)
(٤) ((تحفة المريد)) (ص٦٠)
(٥) انظر مع ما سبق المصدر نفسه (ص١٩٥)، وقد ذكر أن القول بأنه من الكيف النفسي أي مجرد العلم والإدراك بلا عمل اختياري إرادي هو ما يومئ إليه تحقيق سعد الدين التفتازاني.
(٦) رواه أحمد (٢/ ١٠٧) (٥٨٥٦) والطبراني (١٢/ ٤٣٠) (١٣٥٨١) قال الهيثمي في ((المجمع)) (١/ ٤٥) رجاله موثقون.
(٧) فالعجب ممن ينسب إلى نفسه السنة والحديث ثم يوافقهم، فهما عمل أحد من المكفرات (كالتشريع من دون الله) فإنه لا يكفر عندهم إلا إذا جحد أو استحل مراعاة منهم لهذا الإذعان أو التصديق المزعوم.؟ فهؤلاء – هداهم الله – يكفرون أهل الكلام أو يضللونهم في موضوع الصفات، ويوافقونهم في موضوع الإيمان وإن كان بعضهم لا يقصد ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>