للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى إن يقول: "والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق (١)

وأيضا فلو أضاف المتكلمون إلى التصديق شيئا أخر - من أعمال القلب - لا نخرم أصلهم وفسدت قاعدتهم التى هى أن الإيمان شئ واحد لا يتركب ولا يزيد ولا ينقص، ولهذا ألزمهم الإمام أحمد - رحمه الله - إلزاما لا محيص لهم عنه حين قال - في رسالته إلى الجوزجانى: " وأما من زعم أن الإيمان: الإقرار، فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج إلى إن يكون مصدقا بما اقر؟ قال محمد بن حاتم: وهل يحتاج إن يكون مصدقا بما عرف؟ - فإن زعم انه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه يحتاج إن يكون مقراً ومصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال "قولا" عظيما، ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة.

قال المروزى: ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق (٢).

ففى هذه الأسطر الموجزة ألزم الإمام أحمد إلزاما مفحما كل طوائف المرجئة - المتكلمين منهم والفقهاء - الذين يشتركون جميعا في أصل وأحد هو عدم إدخال أعمال القلب في الإيمان، واعتباره عملا واحدا فقط، إما الإقرار " الفقهاء " واما التصديق والمعرفة " المتكلمون: الجهمية والأشاعرية والماتريدية " وهو ألزم شئ للمتكلمين الأشاعرية والماتريدية الذين يفرقون بين مذهبهم ومذهب جهم بالتفريق بين المعرفة - التى هى قول جهم - وبين التصديق الذى هو مذهبهم.

فهذا التفريق نفسه يوقعهم في هذا الإلزام ولا مناص، فإما أن يلتزموا القول بأن الإيمان هو التصديق المجرد عن المعرفة، وهو ما لا يتصور أن أحدا يقوله، وأما أن يقولوا إنه المعرفة مع التصديق، فيبطل أصلهم الثابت وهو أنه شئ واحد لا يتركب ولا يتعدد وحينئذ يلزمهم إدخال سائر أعمال القلب كما أدخلوا المعرفة.

والحاصل أن هؤلاء لو تجردوا من لوثة التقيدات المنطقية والتكلفات النظرية نقلوها عن الفلاسفة ونظروا لآيات الوحى المبين - التى عرضنا بعضها - لأثبتوا أعمال القلب جميعها أجزاء من الإيمان القلبي الذي هو أهم شطري الإيمان.

٢ - المتصوفة:

كان ضلال المتصوفة في أعمال القلب من نوع أخر فالقوم مع اهتمامهم الشديد بها (٣) وتسميتها أحوالا ومقامات وتفصيل دقائقها - أوقعهم الهوى والابتداع ومتابعة أسلافهم من صوفية الوثنيين الهنود واليونان في تناقضات وتخبطات أخرجت طائفة منهم عن الدين كله.

فمن ذلك ضلالهم في "الرضا" - الجامع للانقياد والقبول - فقد خرجوا فيه عما كان عليه السلف إلى معنى فلسفى وثنى، هو الرضا المطلق بكل ما في الوجود لأنه من إرادة الله وقدره، حتى اعتقدوا وجوب الرضا بالكفر والفسوق والعصيان ووقعوا في الجبر المحض تحت ستار ما أسموه "شهادة الحقيقة الكونية"!! و "الاستبصار بسر الله في القدر"!!


(١) [٤٣٧٢] ((الإيمان))، (ص ٢٨١ - ٢٨٣)، وبهذا يظل الفرق الجهمية والأشاعرة هو أن الجهمية يثبتون الإيمان حتى مع إنكار اللسان، والأشاعرة ينفون الإيمان عمن صرح بالكفر بلسانه، لأن هذا عندهم دليل على عدم تصديق القلب، وعلى كل فاللوازم ليست كالأقوال، والرأى فيها محتمل.
(٢) [٤٣٧٣] الخلال لوحة (١٠٩)
(٣) [٤٣٧٤] الذي هو رد فعل لعقلانية المتكلمين وغلو المترفين وجفاف الفقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>