للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وضلوا في الرجاء والمحبة: حيث افتعلوا بينهما تناقضا، فاحتقروا الرجاء واعتبروه " أضعف مقامات المريدين " وغلوا في المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا همهم - بزعمهم - عبادة الله لذاته لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره وجعلوا ذروة المحبة: "الفناء" في المحبوب، ولهذا قال فيهم السلف: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق "، وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول والوحدة - عياذا بالله!!

ومن الناحية العلمية وضعوا قاعدة: "المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب" واتخذوها ذريعة للتنصل من التعبدات التى تشغلهم عن المحبوب - بزعمهم - كالأشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه ونشر دعوته بين العالمين.

وضلوا في التوكل: فجعلوه سلبية مطلقة، وتواكلا رخيصا، وتسولا للمعطين، وتعمدا لإلحاق الضرر بالنفس، وتركا للأسباب المشروعة، بل تركا لأعظم التعبدات - كالدعاء مثلا - فأسقطوا به وبالمحبة من أعمال القلوب الشيء الكثير، فضلا على أنهم غفلوا عن أعظم درجات التوكل، وهو التوكل على الله في إقامة دينه، والجهاد في سبيله، ومقاومة الكفر والفساد - كما هو توكل الأنبياء.

وضلوا في الزهد، فأخرجوه من عمل قلبى إيجابى إلى مظهر سلبى، حتى إنهم حرموا به طلب العلم، لأن ذلك كما قالوا يؤدى إلى تقدير الناس للعالم، وهذا - بزعمهم - ينافى الزهد، وعبدوا الأمة للفقر وبه، وحتى سموا أنفسهم الفقراء، وسموا الله تعالى "الفقر"!!

وبالجملة فلا تكاد تجد شرطا من شروط لا إله إلا الله ولا عملا من أعمال القلب - إلا ولهم فيه ضلال وانحراف، مما كان له أثره العميق في انتشار الظاهرة واقعيا، ولولا أن غرضنا هنا تتبع الظاهرة في الفكر وأراء الفرق لتوسعنا في تفصيل ذلك الذى هو أليق بالواقع والحياة.

٣ - المرجئة الفقهاء:

وهؤلاء يثبتون أعمال القلب في ذاتها ولا ينكرون أهميتها، لكنهم يجعلونها شيئا أخر سوى الإيمان، كما يخرجون منه أعمال الجوارح، فإذا سئلوا عن علاقتها بالإيمان قالوا هي من لوازمه أو ثمراته.

وتأتى خطورة مذهبهم - لاسيما في العصور الأخيرة - من جهة أن الإخلال بشيء من أعمال القلوب - التى يعد الإخلال بها كفرا أو معصية في نظر الشارع - لا يكون - على مذهبهم - إخلالا بالإيمان - الذي هو الإقرار والتصديق - إلا باللازم والتبع، وحسبك بهذا ذريعة إلى التساهل في ذلك (١) - ولو بمرور الزمن وتطور الظاهرة - ولهذا ألزمهم أهل السنة إلزاما لا محيص لهم عنه كما سبق في كلام الإمام أحمد. وكذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا إن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم (أي بخلاف قول الأشاعرة في هاتين القضيتين (٢)، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا" (٣)


(١) [٤٣٧٥] انظر ((الإيمان)) (ص ٣٧٧)
(٢) [٤٣٧٦] لأن الأشاعرة ينفون التصديق عمن ورد الشرع بتكفيره.
(٣) [٤٣٧٧] ((الإيمان)) (ص ١٨٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>